الوساطة الأمريكية في أزمة سد النهضة: هل هي وساطة عملية؟

اثنين, 11/04/2019 - 10:43

السفير بلال المـصري

أعلن الناطق باسم وزارة الخزانة الأمريكية في 31 أكتوبر 2019 عن توجيه وزير الخزانة الأمريكية الدعوة لوزيري خارجية مصر وإثيوبيا لعقد محادثات في 6 أو 9 نوفمبر بواشنطن بشأن أزمة سد النهضة , كذلك وُجهت الدعوة إلي وزير خارجية السودان والبنك الدولي , وقد جاءت هذه الوساطة ذلك بعد جولات تفاوض بدأت بين دول الحوض الشرقي للنيل وهم مصر والسودان وإثيوبيا بدأت عام 2014 علي مستوي ثلاثي ثم سداسي ثم تساعي لكنها تعثرت وتعرضت للتوقف حيناً والتأجيل حيناً عند نقطتي إختناق تفاوضي تعلقتا بفترة ملأ خزان السد وحجم المياه المُخزنة به , حيث تري مصر أن فترة الملأ القصيرة التي يُخطط لها الإثيوبيين وهي من 3 إلي 5 سنوات لحوالي 74 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق ستعرض حصة مصر الثابتة وهي 55,5 مليار م3 / عام  إلي التناقص بنسبة لا تقل عن 25% مما سيؤدي إلي كارثة قومية لكل مجالات الحياة في مصر التي لا مورد مائي آخر يعوض ما ستفقده .

الواقع يُشير إلي أن هناك خشية من ألا يكون دور الوسيط أو المُيسر Facilitator أو المساعي الحميدة التي ستضطلع بأي منها الولايات المتحدة دوراً عملياً أو مُنتجاً وذلك من بناء علي عدد من الحقائق هي كما يلي :

1- أن الدعوة الأمريكية مصدرها وزارة الخزانة وليس الخارجية كما هو مُعتاد في مثل هذه الأزمات التي لا يمكن تجاهل الشق السياسي فيها والذي إلتهب بفعل عدد مرات التوقف من الجانبين الإثيوبي والمصري والتسويف الإثيوبي , من ثم فلا شك أن الأمريكيين – ربما بطلب إثيوبي أو بدونه – آثروا تجنب إضفاء الطابع السياسي علي وساطتهم أو مساعيهم الحميدة بالرغم من أن الدعوة الأمريكية وُجهت لوزراء الخارجية , وبالتالي فالطبيعة السياسية وهي التي تجنبها الأمريكيين هي الغالبة علي التفاوض , ومن الطبيعي وفقاً لطبيعة مصدر الدعوة الأمريكية أن نتوقع المدي الضيق الذي ستتحرك فيه الدبلوماسية الأمريكية ونتوقع كذلك – ولو جزئياً – الميل الأمريكي لأي من الطرفين , ومما يُوضح ما أعنيه بكلمة “الميل” نأخذ مثالاً قريباً جداً زمنيا تتضح منه القدر الكبير من المبادرة والديناميكية الأمريكية , وأعني به ملف أزمة كشمير الأخيرة فقد عرض الرئيس الأمريكي وساطته بنفسه في 22 يوليو 2019علي الهند التي رفضتها وباكستان التي قبلتها – ولم تكن الدعوة من وزير الخزانة أو الخارجية الأمريكيين – بل وبالرغم من الإعراض الهندي تناول وزير الخارجية الأمريكي بنفسه الإتصال بالجانبين لنزع فتيل الأزمة وهو ما لم يحدث في أزمة سد النهضة فلقد إكتفت الإدارة الأمريكية منذ عام 2011 بمتابعتها عن كثب من سفاراتها في أديس أبابا والقاهرة والخرطوم دون تدخل مباشر أو غير مباشر وأعني بالمتابعة مجرد “تجميع معلومات وكفي” , ومع إشتداد تأزم الموقف إكتفت الإدارة ذراً للرماد في العيون بإرسال وفد محدود المستوي من الخارجية الأمريكية برئاسة Eric Stromayer نائب مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية وزار الدول الثلاث أطراف الأزمة لتكوين نظرة محايدة للمساهمة في ” إمداد ” أطراف الأزمة بالمساعدة الضرورية لإيجاد أرضية مُشتركة للبحث في حلول تُرضي جميع الأطراف .

2- أن الوساطة الأمريكية غير مُؤسسة علي مبادرة أمريكية وإنما علي ضغوط مصرية متتالية متنوعة علي واشنطن فمنذ الإعلان الرسمي لوزارة الموارد المائية المصرية في 5 أكتوبر 2019 عن ” أن المحادثات وصلت إلي طريق مسدود كنتيجة لعدم مرونة الجانب الإثيوبي ” لم تبادر الإدارة الأمريكية ولا غيرها من القوي الدولية التي تردد مراراً القول بأن الإستقرار في مصر مفتاح إستقرار الشرق الأوسط بالإعلان عن تجشمها عناء الوساطة , إلا أن بيان وزارة الري المُشار إليه فتح باب عطاءات الوساطة لأي من القوي الدولية أوالإقليمية إذ أشار إلي ” أن مصر تدعو طرف دولي للإنخراط في مفاوضات سد النهضة بين الدول الثلاث والمساعدة في الوصول إلي إتفاق عادل ومُتوازن , ومصر لا تستطيع أن تقول من الذي عليه أن يتوسط , لكن الرئاسة المصرية طلبت من الرئاسة الأمريكية أن تلعب دوراً نشطاً في هذا الأمر” , لكن وفي أول رد فعل أمريكي علي أزمة التفاوض الإثيوبي / المصري صرح المتحدث باسم البيت الأبيض في 4 أكتوبر  بأن “الولايات المتحدة تدعم المفاوضات الجارية للتوصل لإتفاق تعاوني ودائم ومُتبادل الفائدة بشأن ملأ وتشغيل السد ” , وكان من الواضح أن هناك ثمة تباطؤ أو تردد أمريكي للتقدم لدور الوسيط ذلك أنه طيلة شهر أكتوبر الماضي حدث أن المتحدث باسم الكرملين نقلت الواشنطن بوست في 24 أكتوبر عنه تصريحه بأن الرئيس بوتين إجتمع برئيس الوزراء الإثيوبي والرئيس المصري علي حدة وناقش معهما الأزمة لكن المتحدث لم يقل إن كانا قبلا وساطة الرئيس بوتين أم لا , كذلك في 30 أكتوبر كتب نائب رئيس نيجيريا في تغريدة ” أن رئيس البرلمان المصري طلب نقل رغبة مصر في أن يتوسط رئيس نجيريا في الأزمة مع إثيوبيا بشأن سد النهضة ” , كما أن إسرائيل أنكرت أنها ستتوسط لدي إثيوبيا التي تربطها بها علاقة دبلوماسية هي الأولي والأقوي في أفريقيا مع أن إسرائيل حاضرة وبقوة في جذور الأزمة ووراءها , وكانت إثيوبيا قد رفضت قبل كل ذلك وساطة البنك الدولي الأكثر أرتباطاً بمشروع سد النهضة بدعوي أن الدول الثلاث قادرة علي حل الأزمة فيما بينها .

3- لا تُري الولايات المتحدة في كثير من الحالات من قبل أطراف النزاعات علي أنها وسيط حيادي ومن بين الأمثلة العديدة أحدثها وهو الرفض الهندي للوساطة الأمريكية في أزمة كشمير وذلك بمبررغير معلن هوعلاقة التحالف الباكستاني / الأمريكي بدءاً من توقيعهما معاهدة التحالف عام 1947وحتي لأداء باكستان لدورها المُتفق مع الإستراتيجية الأمريكية حيال الأزمة الأمريكية في أفغانستان , كذلك رفضت الصين ولأسباب مُتداولة وساطة الولايات المتحدة في نزاعها مع اليابان علي السيادة علي جزر ببحر الصين الشرقي تلك الوساطة التي جددت عرضها وزيرة الخارجية الأمريكية في 1 نوفمبر 2010.

4- الولايات المتحدة ولا حتي الدول الأربع دائمة العضوية بمجلس الأمن وإن بدرجات مُتفاوتة يمكنها من الوجهة العملية أن تكون وسيطاً نموذجياً , فبالنسبة للأمريكيين فتاريخهم معروف في إنتهاك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن نفسه , وهي حقيقة تقفز من عليها الدبلوماسية المصرية بدون مبرر مقنع , فإعتراف الولايات المتحدة في 21 مايو 2019بقرار الكيان الصهيوني ضم الجولان وكذا الإعتراف الأمريكي بالقدس الشرقية كجزء من عاصمة هذا الكيان والغزو الأمريكي للعراق في أبريل 2003 بدون قرار من مجلس الأمن الدولي , وفي الآونة الأخيرة أصدرت محكمة العدل الدولية بمقرها في لاهاي بتاريخ 25 فبراير2019 رأيها الإستشاري بأحقية مورشيوس في السيادة علي أرخبيل   Chagos / Diego Garcia الذي إحتلته بريطانيا وقامت بتأجير  Diego Garcia للولايات المتحدة لتتخذ منها قاعدة عسكرية بالمحيط الهندي  غير عابئتين بهذا الرأي , وهناك معاهدات مختلفة لم تشأ ان تصدق عليها أو توقعها الولايات المتحدة خروجاً علي الإجماع الدولي منها إتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار , ما يعني أن هذه القوة العظمي لا تكترث لا بقانون دولي ولا بشرعية دولية , وهو ما يجب أن تخشي منه مصر التي دائماً ما يُردد مسئولييها أنه بينها وبين الولايات المتحدة علاقة خاصة وأن بينهما “حوار إستراتيجي” , وهو مالم ولن يشفع لها عند الأمريكيين , وأهمية هذه النقطة تكمن في أن الموقف المصري من سد النهضة الجزء الأهم منه متعلق بالقانون الدولي وقانون الأنهار تعييناً والإتفاقيات التي وقعتها القوي الإستعمارية مثلما وقعت إتفاقيات الحدود بين الدول الأفريقية وهذه الإتفاقيات لا تعترف بها إثيوبيا ولا معظم دول حوض النيل , كما تجب الإشارة في هذا الصدد إلي  أن البنك الدولي الذي سيُشارك في إجتماع واشنطن نفسه ينتهك القانون الدولي المُستقر إذ أنه يتبني منذ مستهل الألفية الثانية الترويج لمبدأ قابلية المياه للإتجار فيها Tradeble Water Resources خلافاً لما إستقر عليه القانون الدولي في شأن الأنهار والنظام الدولي التقليدي المُتعارف عليه بشأن إستغلالها فقط من قبل دول أحواض الأنهار , بإختصار الوسيط غير مؤهل وإثيوبيا وضعت مشروطية قبلها الأمريكيين علي الإجتماع منها أنهم سيناقشون الموقف لا سيتفاوضون بشأنه , كما أن السودان مازال مُتارجحاً بين تغيير موقفه لصالح مصر وبعيداً عن إثيوبيا التي أعلنت في 16 أكتوبر 2019عن الموافقة علي إمداد السودان بنحو 300ميجا وات كهرباء يومياً .

لقد إضطرت الولايات المتحدة تحت إلحاح مصر الحليف المطيع والمخلص أن تدعو لوساطة تمارسها بحاضرتها واشنطن وهي تدرك أن الإلحاح المصري لوساطتها دالة يأس وضيق مجال المناورة خاصة وأن 6 دول من حوض النيل وقعت إتفاق التعاون الإطاري ولم يتبق غيرها والسودان وجنوب السودان وهو الإتفاق الذي لا يعترف لا بمبدأ الحقوق التاريخية ولا بمبدأ الإخطار المُسبق للمشاريع ومنها سد النهضة نفسه , وتدرك الولايات المتحدة أن قضية السد لمصر قضية حياة أو موت لكنها بالنسبة لإثيوبيا وكل دول حوض النيل قضية حياة أو حياة أفضل , وقد سبق الإثيوبيين هذا الإجتماع بباقة من التصريحات منها أن السد تمويل إثيوبي وأنه مشروع قومي , ومع تأخر نضوج ثمرة صفقة القرن علي شجرتها وربما ذبولها يضمحل الدافع الأمريكي للتضحية بالحليف الإثيوبي وهو ما سبق وأشار إليه مبكراً الرئيس الأسبق للجامعة الأمريكية ببيروت ورئيس مركز الدراسات الدولية وخبير النيل المعروف/ john waterbury  في مقال له بدورية BROWN JOURNAL OF WORLD AFFAIRS عدد شتاء / ربيع 1997 تحت عنوان : هل الوضع الراهن بحوض النيل قابل للإستمرار ؟ فمن ضمن ما أشار إليه “… ويبني الإثيوبيين موقفهم علي أساس أن متانة العلاقات المصرية الأمريكية لن تدوم عند إيجاد حل للمشكلة العربية / الإسرائيلية – وهو ما يحدث الآن – كما ستفقد مصر مكانتها بين الدول العربية , ومن ثم لن تلقي الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة وربما من الغرب عامة , يُضاف لذلك عدم قدرة النظام المصري علي الخروج من الكماشة الإقتصادية التي تُطبق علي عنقه بسبب تضخم القطاع العام وشيوع البطالة ووجود نظام عسكري ريعي RENT – SEEKING يؤجر خدماته ” .

إن الأمن القومي الأمريكي في حاجة أكثر للحليف الإثيوبي خاصة بناء علي متطلبات القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا  AFRICOM- التي لا تشمل في ولايتها مصر-  , فإثيوبية ضرورية للجهود العسكرية / الأمنية لهذه القيادة في الصومال وفي جنوب السودان الذي كان لإثيوبيا دور هام في وقف الحرب الأهلية بين طرفي الحرب الأهلية به بتوقيع إتفاقية أديس أبابا عام 2015 وكذا في الأزمة التي أعقبت ثورة 19 ديسمبر 2018 بالسودان ووساطتها بين العسكريين والمدنيين وهو ما يؤكد حركية وحيوية الدبلوماسية الإثيوبية , وهي أدوار غابت عنها مصر  .

أقصي ما يمكن أن تفضي إليه الوساطة الأمريكية هوإنشاء لجنة جديدة ستكون سبباً إضافياً تستهلك به إثيوبيا الوقت , فلم يتبق غير 20% من أعمال السد حتي يكتمل .

كاتب مصري