د. سعد ناجي جواد
لقد كشفت الانتفاضة الجارية حقائق عن الشعب العراقي غابت لفترة طويلة، وبالتحديد منذ بداية الاحتلال، حيث حاول المحتلون ومن أتى معهم ان يرسموا صورة مغايرة عن هذا الشعب الكبير. فعلى سبيل المثال تم تصوير العراقيين بانهم راضون ومؤيدون للسياسات الطائفية، بل و التقسيمات الطائفية، وان الشباب العراقي اصبح سطحيًا و وقع ضحية للمخدرات التي تأتي من الخارج، وفي الغالب الأعم من ايران (علما بان من يروج لها ويتاجر بها هم في غالبيتهم العظمى من المتنفذين السياسين)، وان العراقيين متمسكين بالوجوه الطائفية والعرقية الفاسدة التي جاءت مع الاحتلال، بدليل ان (الغالبية) تنتخبهم وتعيدهم الى البرلمان والحكم في كل انتخابات (ولا يتحدثون عن حجم التزوير في هذه الانتخابات)، الى غير ذلك من المفاهيم الخاطئة التي حاولت اجهزة إعلامية كثيرة ان تروج لها كل حسب اجندته. وربما ساهم في الترويج لهذه الصور السلبية سكوت الشارع العراقي لفترة طويلة وطويلة جدا على كل السياسات الخاطئة بل والمدمرة، باستثناء انتفاضات قصيرة سرعان ما كانت تقمع بعنف وبعد تقديم عدد من الشهداء. وهذا ما جعل الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية تستمر في غيها و بدون اعتبار لمشاعر الغالبية العظمى من العراقيين.
لعل اكثر ما أوضحته الانتفاضة العراقية اليوم هو حجم الرفض لهيمنة الأحزاب والشخصيات الفاشلة والفاسدة أولا، وللنفوذ الإيراني في البلاد ثانيًا، والمحاصصة المقيتة وللطائفية ثالثًا، والأهم ان هذا الرفض انفجر في المحافظات الجنوبية التي تسكنها غالبية كانت إيران، والأحزاب الطائفية التي تسير في فلكها أو التابعة لها، تدعي بانها تمثلها وتحرص على حماية مصالحها وأنها تشكل بيئتها الداعمة.
طبعًا من يعرف العراق جيدًا يعرف ان عرب جنوب العراق، ومنذ قديم الزمان يحرصون على التفريق بين إيران كدولة جارة يجب ان يحتفظ العراق معها بعلاقات طيبة، وبين ساسة إيران الذين يحاولون ان يفرضوا وصاية عليهم لأسباب مذهبية، ولسبب أساس هو ان عرب العراق يعتبرون أنفسهم، وكذلك المرجعية الدينية في النجف، بأنهم هم من يمثل المذهب الذي يتشاركون فيه مع غالبية الشعوب الإيرانية، وأنهم هم من يشكلون قيادته، لان هذا المذهب هو بالأساس مذهب عربي. ومن لا يعرف أو يفهم أو يستوعب هذه الحقيقة لا يستطيع ان يفهم هذه الموجة العالية من السخط والرفض للنفوذ و التدخل الإيراني في الشؤون العراقية. طبعًا هذا الشعور لم يدفع عراقيو المحافظات الجنوبية، وقسم غير قليل من العراقيين، إلى القبول بما يروج له من ان إيران هي العدو الأول للامة العربية، بل ان الغالبية العظمى من العراقيين لا يزالون يؤمنون وبشدة بان إسرائيل هي عدوهم الأول وان أمريكا هي عدو أساسي دمر بلدهم واحتله وقدمه على طبق من ذهب لعملائه الفاسدين و للدول الإقليمية وخاصة إيران. ولكن ما لا يرتاح له غالبية العراقيون هو التدخل الواسع لإيران في الشؤون العراقية، وحتى مرجعية النجف شددت بصورة غير مباشرة على هذه المسالة في بيانها الأخير في خطبة الجمعة الماضية.
من ناحية أخرى فان السياسة الإيرانية على مر العقود ساهمت في خلق هذا النفور لدى عدد غير قليل من العراقيين. وهناك أمثلة وحقائق عديدة تدلل على ذلك. ولعل احدثها هو ما اعترف به سياسيون اميركان وإيرانيون عن التعاون بين الطرفين من اجل تسهيل احتلال العراق في عام 2003. ثم ازداد رفض العراقيين للنفوذ الإيراني المتزايد في العراق بعد الاحتلال عندما بدأوا يسمعون تصريحات لمسؤولين ايرانيين اعتبروا فيها العراق جزء من (الإمبراطورية الإيرانية) أو ان بغداد هي عاصمة هذه الإمبراطورية. ومما زاد في نمو الشعور المعادي للنفوذ الإيراني في العراق هو الدعم الا محدود والحماية التي تقدمها الحكومة الإيرانية للسياسيين الفاسدين والفاشلين من العراقيين الذين نهبوا ثروات العراق ودمروا البلاد وجعلوا منها ساحة مفتوحة لكل من هب ودب لكي يعيث فيها فسادا. واخير وليس آخرا بسبب الاتهام الإيراني للانتفاضة الشعبية بانها مؤامرة أمريكية-اسرائيلية، في وقت ان قادة إيران يعرفون قبل غيرهم ان هذه الهبة الشعبية في اساسها جاءت بسبب حجم فساد النماذج الحاكمة التي يدعمونها وحجم فشلهم في إدارة البلاد وحجم الرفض الذي يحمله العراقيون لهم ولبقائهم في الحكم وبأساليب اقل ما يقال عنها انها غير نزيهة. علمًا ان الحكومات الإيرانية المتعاقبة اتخذت إجراءات صارمة ضد بعض رموز النظام الإيراني أو ابناءهم او مساعديهم عندما وجدت انهم متورطون في عمليات فساد عام.
من ناحية أخرى فان اتباع إيران في العملية السياسية العراقية أساؤوا بدورهم إلى سمعة إيران في العراق بصورة كبيرة لانهم في كل أحاديثهم وتصريحاتهم يضعون مصلحة إيران فوق مصلحة العراق، ويعلنون انهم على استعداد لأخذ العراق إلى حرب ضد اميركا او أية قوة تعتدي على إيران، وفي هذه الانتفاضة فعلوا نفس الشيء. فالفساد المستشرى والنهب لأموال العراق واستمرار الوجوه الفاسدة في الحكم وانعدام الخدمات والحالة الاقتصادية البائسة التي يعيشها غالبية العراقيين وقتل المتظاهرين كل هذه الأمور لم تستفزهم او تدفعهم للبحث عن حلول جدية للخروج من الأزمة، لكن ما استفزهم ودفعهم لاصدار التهديدات باستخدام القوة ضد المتظاهرين هو ما اعتبروه هتافات مسيئة لإيران ولقياداتها. اخيرا وليس آخرا فليس من مصلحة إيران التمسك بالسياسيين الفاسدين او بأحزاب جَرَّت العراق الى كوارث وسياسات طائفية، ومن مصلحة ساستها ان يعيدوا النظر في هذا النهج. ومن يعتقد، او حاول ان يقنعنا منذ بداية الاحتلال، ان الطائفية حالة متجذرة في المجتمع العراقي، و اعتقد، وربما لا يزال، انه يمكن الاستفادة من هذه الحالة عليه ان يراجع نفسه بصورة جدية لان المتظاهرين سحقوا هذه الاقاويل بإصرارهم على رفع علم العراق فقط والتحدث كعراقيين وليس كمكونات. ومن يريد ان ينفذ اجندات خارجية في العراق، إقليمية كانت ام دولية، عليه ان يفعل ذلك خارج العراق، لان الوعي العراقي الشعبي الجديد سوف لن يجعل من هذه المهمة سهلة كما كانت خلال السبع عشرة سنة الماضية.
حفظ الله العراق وشعبه من كل سوء
اكاديمي وكاتب عراقي