د. أماني القرم
للبنان وضع خاص .. كل شيء فيه له هوية طائفية بحكم تكوين مجتمعه، حتى الدستور وتعديلاته بنيت على واقعه الطائفي .. وحين يتم تناول الموضوع اللبناني فالأمر أشبه بالسير على خط النار لتعقيداته وتشابكاته التي تخلط الطائفي بالسياسي والاقليمي بالمحلي .. وفي التاريخ اللبناني شواهد مثقلة بالدم لا يمكن التبرؤ منها أو الفكاك..
سبعة أيام واللبنانيون في الشوارع يرفضون كل ما يأتي قادماً من “السراي الكبير” مركز الحكومة أو “قصر بعبدا” مقر الرئاسة أو من قلعة الجنوب مقر حزب الله.. فلا سحر الحريري نافع ولا سحر نصرالله قادر على أن ينجح في إرضاء المتظاهرين ..
وكحال جميع الثورات، بدأت الثورة اللبنانية ككرة الثلج، صغيرة، وتدحرجت لتكبر وتعم جميع المدن وتطيح بالمعقول واللامعقول وتخلط المطالب، فلا أحد يعرف من أين بدأت ولا كيف ستنتهي! المهم أنها فاجأت الجميع ..هكذا الثورات دائماً تأتي مفاجأة ..تعقد الالسنة وتلخبط الحسابات ..
وفي تفسيره لمطالب الجماهير الثائرة بصفة عامة يقول المفكر الفرنسي “جوستاف لوبون”أن عقل الانسان ووعيه يذوب ويغيب في الحشود، ويصبح للجميع روح جماعية تجعلهم يحسون ويفكرون بطريقة واحدة وفي اتجاه واحد، مثلما يحدث عند خلط عدد من المواد المختلفة في الخصائص فإن ما ينتج عنها مركب كيميائي جديد مخالف تماما للعناصر المكونة له. والجمع يخلق لدى الأفراد قوة هائلة تجعلهم لا يعرفون المستحيل وينطلقون بالاحلام الى أقصى درجة . ولذا فكل الحلول مرفوضة إلا ما تقوله هذه الجماهير..
فمن الشمال إلى الجنوب وحتى الوسط التحركات الشعبية اللبنانية لها خطاب واحد ولغة واحدة ومطالب واحدة : كلكن يعني كلكن ..
لبنان كما هو بلد الطوائف فهو بلد الأزمات أيضا .. يعاني أوضاعاً اقتصادية بالغة الصعوبة تبعاً لنسب البطالة، وانقطاع التيار الكهربي والمياه ومشاكل النظافة، وزيادة في الدين العام وسقوط الليرة وشح الدولار …و..و.. ببساطة انهيار كلي يمس جميع مناحي الخدمات والبنى التحتية ..
ولأنه بلد له خصوصية منفردة فثورته أيضا مميزة .. بها مفارقات غريبة ومضحكة ودروس للمفكرين السياسيين وعلماء الاجتماع في العالم ..وبعيداً عن المظهر الجمالي اللافت للقوة الناعمة التي تسيطر على تحركات الجماهير اللبنانية ، فالمفارقة الأبرز هي أن كل مسئول أو زعيم طائفة في لبنان تسابق في الخروج للاعلام وتبارى في استخدام المصطلحات التي تظهر أنه مع الشعب وتحركاته وفقره وحقه في التظاهر ، للدرجة التي شككت في جدية هذه التحركات وسألت نفسي مادام معظم زعماء البلد يطالبون بالاصلاح والانقاذ فلماذا يتظاهر الناس وعلى من ؟؟ ولماذا يصمم الزعماء على التحذير من الطائفية واللعب بالعقول رغم أنني لم أسمع متظاهراً واحداً يعرج على هكذا حديث ؟؟
ملوك الطوائف اللبنانيون هم أمراء حرب سابقون أو سلالاتهم تحولوا إلى سياسيين ليس فقط بحكم النظام الطائفي بل والعائلي المتجذر في التكوين اللبناني.. ولذا فعقليتهم قديمة مسكونة بنفس الهواجس ونفس التوجهات، يخافون من فقدان مكتسبات المحاصصة المذهبية التي تضمن لهم الاستمرارية والبقاء في أماكنهم، ويراهنون على الحشد بنفس اللغة القديمة. فيما الثوار معظمهم من الطبقة الشابة التي لم تعش ظروف حرب الطوائف ولا يحركها خطاب الطائفية الرنانة ولا حتى يخيفها لأنها ببساطة لا تهتم به فقد بات قيداً خانقاً حتى لمؤيدي كل طرف . المهم أن تعيش بكرامة، ومعنى الكرامة الحق في العمل والمساواة في الكفاءة والتمتع بحياة انسانية في بلدها..
متى يعى السياسيون في الوطن العربي أن الشعب يتجدد ؟؟ ومطالب الامس ليست مطالب اليوم .. وعليه فخطاب أمس لا ينفع أمام جماهير اليوم ! اخر ثورات لبنان كانت في العام 2005 ضد النفوذ السوري في البلاد وكان من المفروض ان يعقب نجاحها تحرر لبنان من التدخل الخارجي واقامة نظام انتخابي وحكم رشيد ، ولكن ما حدث هو العكس إذ غرق اللبنانيون في براثن فساد أمراء الحرب .
مشكلة لبنان أو ثورة لبنان هي مشكلة كل الوطن العربي .. كلما بقيت النخبة الحاكمة وقتاً أطول كلما زادت الفجوة مع الشعب .. الشعب يتجدد والسياسيون كما هم بنفس العقليات !
كاتبة فلسطينية