مصطفى الشاعر
لم تعد الدول في المنطقة تخشى من الصواريخ والجيوش التي قد تغزوها من الخارج مثلما كان الحال في الماضي، دول المنطقة اليوم أصبحت تحصن نفسها من “الفوضى الخلاقة” التي يسعى الخارج إلى تجنيد بعض أبناء الداخل من أجل افتعالها بذريعة سوء الأوضاع المعيشية والفساد المستشري في الأنظمة، ورغم أن المشاكل لن تحلها الفوضى بل قد تزيدها تعقيدًا هناك الكثير من الشعوب قد تنزلق في هذا المنزلق الخطير، وهنا يكمن الخطر على الأوطان.
الأوطان -إذًا- ما بين “مطرقة” الشعوب وسندان “الأنظمة”، فالجميع للأسف يعتقد أنه الوطني الذي يريد الخلاص للوطن، وحل مشكلاته الاقتصادية والأمنية، رغم أن فتيل الانفجار قد يكون بسيطاً بخلايا صغيرة مجندة من الخارج قادرة على دق الأسافين بين الطرفين؛ الأوطان مهددة، وإذا غاب الوعي بين أطراف الصراع قد يسقط البناء بالكامل.
نعم بعض الأنظمة نخرها الفساد والمحسوبية بشكل كبير، وعليها أن تعي أن الشعوب لن تتنازل عن ذلك في زمن الكساد والبطالة، بل ستطالب حتمًا بالنزاهة والشفافية، على الأنظمة أن تدرك ضرورة صيانة أنفسها قبل نشوب أي حراك؛ لأن الأمن الحقيقي هو أمن استقرار معيشة أبناء البلد وتوفير العيش الكريم لهم، والركود الاقتصادي الذي تمر به المنطقة قد يتطلب تقديم تنازلات سياسية كثيرة للشعوب، وعلى الأنظمة أن تكون مستعدة لذلك، والمشاركة في مواجهة التحديات أحد الحلول المطروحة لتفادي الفوضى.
لذلك ما هو مطلوب على الأنظمة التي تريد أن تحافظ على استقرار أوطانها أن تتدارك الأمر بصورة عاجلة وتتجاوب بسلمية مع مطالب شعوبها؛ لأن حماية الدول من “الفوضى الخلاقة” يجب أن يكون بخطوات صادقة من أجل إصلاح الأنظمة وسحب كل المسوغات التي قد تدفع الجماهير للشارع، الأنظمة والشعوب أمام منعطف خطير للحفاظ على وجودها، والعاقل من يدرك ذلك.
نعم ثمة تحديات جسيمة تواجه الأنظمة قد لا تدركها الشعوب، الوضع الاقتصادي أصبح الإعصار الذي يعصف بالدول، خاصة تلك التي لم تستعد لذلك من زمن بعيد، والشعوب اليوم هي من أصبحت تتحمل الضريبة، فبعض الأنظمة لا تريد أن تتحمل مسؤولية الأوضاع الاقتصادية، رغم الفشل الإداري والاقتصادي بسبب المحسوبيات، والفساد الذي استشرى تحت أعينها، بينما ترى الشعوب أن الأنظمة سبب كل مشاكلها، وتضيع الحقيقة بين الطرفين.
قد يعتقد الكثيرون أن نزول الجماهير في الشوارع قد يخلق التغيير ويحل كل المعضلات التي قد تواجهها الأوطان، وهذا غير دقيق؛ فالتغيير المتدرج والإصلاح السلمي في منطقتنا هو الطريق الأمثل لعلاج كل المشاكل التي تواجهها الدول، وذلك لأن منطقتنا مستهدفة “وهذه حقيقة”، وقد تتحول المطالب من طلب “رغيف الخبز” إلى رصاصات لقتل بعضنا بعضًا ليستفيد أعداؤنا من ذلك، ولنا في دول كثيرة في المنطقة خير مثال، حين تحولت المسيرات الشعبية إلى عصابات مسلحة تقتل باسم الدين والعرق.
الاستقرار في المنطقة هو أولوية في ظل كل الظروف التي تمر بها، لنر خارطة المنطقة ولنحسب الدول التي خسرت نفسها بسبب “الفوضى الخلاقة”، ولنفكر مليًّا بضرورة اختيار الطرق الأنسب لعلاج التحديات التي تواجهنا، والحديث هنا يطول؛ لأن شرعية المطالب لا يعني شرعية حراك الفوضى.
في الوقت ذاته لا بد أن نعي أن هناك من يعمل ليل نهار في داخل الأنظمة أيضًا لضمان أمن واستقرار الأوطان بكل صدق، وقد يكونون فعلًا غير مستعدين لتقبل أي تحركات شعبية على شكل “فوضى”؛ لأن أحدًا لا يعرف نهايتها، وربما بدأت بعدها الصدامات الدموية، لذا على كل الشعوب أن تعي أن هناك جهودًا صادقة تبذل لتدارك الأوضاع الاقتصادية، وأن تحديات جسيمة تواجهها الدول، والحلول لا تأتي بالعصا السحرية في ليلة وضحاها، وعلى الجميع التعاضد في سبيل بقاء الأوطان راسية على بر الأمان.
أخيرًا.. نحن أمام مرحلة شبيهة بالإحداث التي مرت على منطقتنا سنة ٢٠١١م وغيرت من شكل منطقة الشرق الأوسط، فكم من دول عرفناها آمنة مستقرة منذ عقود سقطت أمام “الفوضى الخلاقة”، وللأسف أن هناك الكثير من الدول التي لم تستفد من تلك الدروس لتتفادى حدوث المشاكل ذاتها مرة أخرى، وفي اعتقادنا أن القادر على فهم المتغيرات هو الذي سيتجنب ذلك، وسيعلم أين يجب أن تتوجه البوصلة.
مسؤولية الأوطان على الجميع، وليست حكرًا على أحد من أصغر مواطن إلى راس الهرم في السلطة، وإذا سقطت الأوطان فذلك يعني سقوطنا جميعًا، المنطقة لا تتحمل الكثير من سقوط الأنظمة لأنها قد تسقط كلها، لنفكر مليًا ماذا قد نخسر وماذا قد نكسب قبل كل الخطوات، الحكمة ثم الحكمة ثم اختيار الأنسب، والوطن ثم الوطن ثم الوطن، وكفى.
مغرد وكاتب من سلطنة عُمان