استخدم المفكرون والفلاسفة أدوات كثيرة للبحث عن ماهية الإنسان والحياة..
كان أحدهم يحمل في رابعة النهار مصباحا. سئل ذلك الفيلسوف لم يستخدم المصباح، متجاهلا الشمس الكبيرة ونورها الساطع..
لعل الحكمة من ذلك كله أن المصباح الصغير بيدك أكثر واقعية من نجم كبير لا تتحكم في إشراقه ولا في غروبه..
يظل "ديوجين" مثلا في أدبيات "العقل الحائر"، ذلك العقل الذي يستدل بأشياء صغيرة ومثيرة للسخرية عند أولئك الذين لا يرون إلا أشياء كبيرة، يتساوى الناس في النظرة إليها، ويَتفاوتون بشكل لافت في إدراك كنهها.
لو عاد "ديوجين" اليوم إلى الحياة..
لآثر حمل مصابيح عدة عوض مصباحه الشهير. فقد زادت الأدوات الحديثة تعقيد "الأسئلة القديمة"، "الأسئلة الفطرية".
و البشر ما يزالُ "حائرا" في جوهره، ما يزالُ رهين عزلته رغم زحمة المنجزات المادية والفكرية، زحمة الحياة في كل زاوية من هذا الكوكب، إذ لم ينتج التفكير البشري بعدُ وصفة ناجعة لتعامل الإنسان مع مكر الحياة، إن لم نقرب التعبير أكثر ونقول أهداف الحياة.
إن الشر البشري يتزايد في العالم المتحضر عصرا بعد آخر.
و من المفارقة أن الإبادة التقليدية من عصر ما قبل "هولاكو" إلى المستوطنين البيض في أمريكا واستراليا، إلى "داعش" حاليا، تجري جنبا إلى جنب مع الإبادة الحديثة من طرف جيوش مخابر المجمعات الصناعية والدوائية والغذائية.
من قرأ عن تاريخ الإبادة البشرية في عصور النشأة لا يمكنه مقارنة ما ورد عنها مع ما يحدث اليوم من إبادة بشعة، إبادة جماعية متزامنة لا تميز إلا قليلا، تقوم بها "شركات كوكبية" في وضح النهار لتكسب من "إبادات" تصنعها بنفسها.
وكل ذلك تحت حماية العلم والسياسة، في عصر الإنسان المترف علما، الفقير فكرا.
إن الترف العلمي والفقر الفكري آلتان مدمرتان للإنسان..
الإنسان الأمة، والإنسان الفرد. جدير بالفرد ـ أحرى بالشعوب ـ أن يجزع مما يجري، فمن لم تطله بعدُ "الإبادة التقليدية" باسم هذه الجماعة "الفكرية" أو تلك، معلق من حيث يدري أو لا يدري في مسالخ الإبادة الحديثة.
ويستحيل التخفيف من الأضرار إلا بعمل جماعي وطني واع ومنظم.
بيد أن آليات العمل الجماعي المنشود مفقودة كليا في بلد يؤكد بحماس انتماءه لجنوب الجنوب، حيث تتحكم إرادة الشخصنة، التفرقة، الإفقار، الاندثار الأخلاقي، الهلامية الذاتية المجايلةلقصر النظر العنيد.
بالنظر إلى ذلك، لن يجد أي "ديوجين" سياسي أفضل من مصباحه بعد الدعاء والابتهال إلى الله بالتوفيق.
إن كل فرد عليه اليوم أن يحمل شمعة للبحث عن الإنسان بداخله، ذلك الإنسان غير الشره سياسيا، غير الأناني شخصيا...
من يحمل تلك "الشمعة" في العصر الراهن، سيتعرض لسخرية الطيبين وحثالة "ميتي الضمير" بنفس القدر. لكن لا يجب أن يكون ذلك مدعاة للتردد أحرى الحزن..
فكم هو خاسر من جبُن عن أخذ مسؤولياته في اللحظة التي تحاصره فيها عقارب ساعة الحقيقة.
و لا أريد أن أكون ذلك الجبان...
محقّ من يتصور أن الأمر أصعب على السياسي...
فإن كان السياسي هو الأكثر التصاقا وتشبثا بمهنته، فإنه من بين كل الناس هو الأقل تكيفا مع متطلبات العمل في الجوانب غير السياسية للحياة الجماهيرية التي كان المفترض أن تكون هي هدفه الأول.
إنه "عبَّاد سياسة". فهي شمسه و قبلته، لا يحيد بجبهته عن تلك الوجهة، التي يرى فيها "مصلحته"، حتى وإن غابت عنه أشعة السياسة، فسينتظر أي إطلالة لها من أي جانب آخر ليولي وجهه شطرها، في "سيزيفية عبادية" قلما ينتبه لها العاملون في المجال السياسي.
بالنسبة لي فإنني، وفي حياتي السياسية، آثرتُ دائما أن لا أكون "عبادَ مصلحة"، وكم مرة غامرت فيها باختيار "وجهة أخرى"، غير عابئ بما سيلحق بي من أضرار، لقناعتي أن المنجاة في هذه الحياة هي الانحياز لـكرامة التفكير الحر، بدل الارتماء في مراكب أعدها الآخرون على مقاسات أهدافهم. هكذا كنتُ حين رفضتُ عروض الالتحاق بمركب قارب ولد الطايع، لأن الانزواء في سجن ضيق معزول يترجمُ كل ذاكرة المهانة الإنسانية، كان أكثر عقلانية و أحب إلي من ركوب قارب مثقوب، غارق لا محالة مهما زُينتْ أشرعتَه من لافتات وأمسكته من سواعد مفتولة. لقد زادتني تجربة السجن انحيازا للتفكير الحر، وخدمة للمصلحة العامة التي قلما يراها الكثيرون خارج كرسيّ الحكم أو دائرته.
وهكذا كنتُ حينَ أخذت مسافة من نظام سيدي ولد الشيخ عبد الله في وقت تداعى بتزاحم على قصعته الموالون و المعارضون، وحينَ واليتُ "نظام السادس من أغسطس"، ولاحقا عندما عارضتُ نظام ولد عبد العزيز في أوج قوته رغم ما توفر لي من وظائف ومكانة في ذلك المركب.
أما اليوم، وأمام الواقع الذي تعيشه البلاد، والوجهة التي تسيرُ إليها، وفي ظل انسداد الآفاق أمام عمل سياسي توافقي مفيد خارج الرؤية الضيقة، رؤية ولو من سمّ الخياط، ومن خلال ملامسة ميدانية للعبة السياسية في بلادي، فقد تحققت من مخاوفي التي استخلصتها بشكل مبكر إبان أول دخول لي إلى حلبة الرمال السياسية المتحركة، وهذه المخاوف تتجلى في التالي: أولا، منذ انقلاب العاشر يوليو 1978، ظلتْ "النخب" العسكرية المتعاقبة وحدها الفاعل الميداني في عمليات "التغيير"، التي لم تقترب من الجوهر ولو في الخطابات النمطية المترهلة.. بينما ظلت النخب السياسية – والاستثناء قائم بالطبع – نخب تطبيل أو عويل..
تزمير أو تحذير، تحصيل أو تبذير، تخدير أو تجمير..
نخب مقاعد و محاصصات، وحوارات مجتزأة كأنها تجري داخل الجيوب، وكان أداؤها السياسيّ أكثر عالة على البلاد منه مصلحة لها..
يستوي في ذلك الموالي والمناوئ.. وأذكَّر بأن الاستثناء ما يزال قائما.
فلا الموالي استطاع التغيير من الداخل، وجذب مقود النظام إلى مناطق إبحار مأمونة تنمويا واجتماعيا و سياسيا، ولا المعارضُ أبدل بقطيعته التامة للنخبة العمودية التي بيدها عقدة التغيير، انتشارا أفقيا، يمكن من خلق رأي عام قادر على تجاوز مرحلة الولاء الغرانيتي "للدولة الفرد"..
تلك الدولة التي لا نحتاج شمعة لنتبين الشروخ العميقة في أرضية مركبها المتآكل.
إحدى نتائج ذلك، هي وجود نخب الموالاة السابقة في معارضة اليوم، ونخب معارضة الأمس في موالاة اليوم..
ليس هذا من قبيل تبادل الأدوار، إنه تبادلُ أثواب فحسب.
ثانيا، من الناحية الواقعية، لمْ تحرر النخبة السياسية بشقيها، الموالي والمعارض، طيلة الستة عقود الماضية، أي مساحة مشتركة للرأي العام الوطني، المتصف حد الإشفاق بالبداوة الولائية.
إن ما تم انتزاعه من "طبقات مترسبة" إنما تم منْ فوهة البركان الخامد.
إن ذلك يجعل أي سياسي حر، من جاذبية وجهي العملة، يتحرك بين حقول ألغام مدفونة في أرضية طينية لزجة.
إن ذلك أيضا هو ما يصيب آلاف الشباب المتعلمين بالإحباط و القنوط المدفوعين إلى الهروب نحو الهجرة إلى الخارج، أو الاندفاع إلى الوراء نحو البيئة القبلية، الحاضنة لاندماج القطيعة، المناقضة كليا للمصلحة العامة.
في مثل هذه الأجواء، يكون من الطبيعي تماما الوصول إلى خلاصة مفادها أن "المرقعات السياسية" لن تستر واقعا قميئا تتخبط فيه أجيال الحاضر والمستقبل..
فالمرقع يتنافر ولا يتجانس، يبلى ولا يستجد.
إن الاستمتاع بالضوء من انفجار البراكين أمر لا يطولُ..
وإنّ تساقط غيوم الغبار يخنق أزهار الحقول ولا ينشرُ عبيرها.
في موريتانيا اليوم، وإلى حين - وفق توقعاتي - لا يتحرك إلا "بندول الدوامة"..
حشد مكرر وخطاب مكرر..
أزمة مشخصنة في بلد الأفق الوحيد المفتوح فيه هوّ أفق الانغلاق.
لا أعتبرُ هذا تشاؤما وليس من طبعي التشاؤم، لكن الكأس مليئة بالفراغ، وللجميع الحق في الثقة بالعلوّ "البالونيّ"، أو الانخداع بحجم الفقاعات التي تضللُ نظر الحالم.
السياسة في موريتانيا اليوم نفق مغلق يزداد هواؤه تلوثا يوما بعد آخر، ولا أقول ذلك نتيجة قصر نَفَس أو تعب عن النضال، أو خيبة أمل شخصية، بل لشعوري أن الوطن يخسرُ بالضعف كل لحظة وهو يبتعدُ عن سكة الإنقاذ، أحرى الحل الصحيح لمتلازمة الانهيار المعيشي والقيميّ، الذي يتخبط فيه مجتمعنا، كما تتخبط الفراشات بين ألسنة الجحيم. لقد توصلت إلى قناعة راسخة بأن التغيير الإصلاحي في هذا البلد، بواقعه الاجتماعي والسياسي الحالي، الملوث والمتكلس، لن يحصل دون إرادة واعية موفقة و مشاركة حاسمة ومؤسسة من الجيش.. وإلى أن تتهيأ الظروف لذلك.. فلا تروق لي المشاركة في "حفلة النفق المغلق". إن من لا يملك "روح دبابة" لن يتجاوز دور المهرج في محاولة "التغيير". ومن يرضى ذلك لنفسه؟ لا أزايد على أحد، و في نفسي ما يشغلني عن تتبع و انتقاد خيارات الآخرين. و لسان حالي يكرر قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذ اهتديتم". فمن حق الجميع التلهي برسم ما شاء من أوسمة لبطولة وهمية، والكذب على الذات بحمل النيابة عن الشعب، لذلك قررتُ بتأن، بعد عميق تفكير و واجب استخارة و ميمون استشارة اعتزال العمل السياسي، والتفرغ لـ "إصلاح نفسي" ثم لخدمة مجتمعي بما هو أنفعُ من بيانات لا تبيّن، وخطابات تؤخر ولا تقدم، وحشود فرجة لتسجيل الحضور. وهكذا، يسرني أن أعلن عن تفرغي للعمل في المجال الصحي، وليساعدني الله في خدمة المرضى والمعوزين والمحتاجين والمساكين من هذا الشعب المنكوب "على الفطرة"، الطيب جبلة.. أقرر انحيازي للمصلحة العامة، من جوانب أرى أنها ذات أهمية كبيرة.. فإذا كانت الحالة العامة تعرقلُ العمل الجماعي، فإنها لا يجب أن تعطل المجهود الفردي. فإنني و أنا أعلنُ اعتزال العمل السياسي، لا يفوتني في هذه السانحة الإشادة شكرا وعرفانا بأولئك الذين جعلوني موضع ثقتهم و آمالهم فآزروني بإخلاص و تفان طيلة مسيرتي الماضية، كما أنوه إكبارا و إجلالا بإخوتي و أصدقائي قادة المعارضة الذين أكن لهم كل مشاعر المودة والتقدير، ثم أشكرُ كل الشخصيات الوطنية الوازنة التي لم تتأثر علاقتي بها بأي موقف سياسي. وأتمنى للجميع التوفيق فيما يطمحون إلى أن يكون عليه هذا البلد. على أنني، وإن كنت قررت اعتزال العمل السياسي، فإنني سأبقى مهتما بالشأن العام الوطني و ما تصير إليه أمور البلد، و سأواصل بحول الله، سلسلة مقالاتي و مداخلاتي الفكرية التي أسعى من خلالها لإثراء النقاش الفوقي الحر حول مصالح بلادي وأمتي. أتصور أن البعض لن يفهم حق الفهم دوافعي الحقيقية ل"الترجل السياسي" في هذه المرحلة. قد يثار حول ذلك لغط كبير، وهمس كثير، في ساحة قلما تنتج غير اللغط والهمس السلبيين.. باختصار شديد لستُ مستعدا للمشاركة، لا تمثيلا ولا فرجة، في مسرح عرائسي عبثي يكرر ذاته على مدار العقود. بدلا من ذلك، سأتفرغ لما ينفع الناس فعلا، تعبدا لله تعالى و قربانا إليه. فكما ألهمني هذا القرار، فإني أسأله ابتهالا و تضرعا أن يعصمني على الهدى و يثبتني على اليقين و أن يهب لي قوة العزم و صلاح النية و معرفة الحق و اتباعه.. "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه". و ليقل الله عثرة بلدنا.