الدكتورة حسناء نصر الحسين
فتحت الأزمة السورية الباب واسعاً أمام روسيا الاتحادية للعودة إلى الواجهة العالمية بقوة استطاعت من خلالها رسم ملامح جديدة للمشهد العالمي، ولا نبالغ حين نقول بأنه ومنذ اللحظة التي تعاملت فيها روسيا مع الأزمة السورية بكونها صراعا دوليا على سوريا بأطراف متعددة إقليمية ودولية، حاولت توجيه الحل بما يضمن لها مصالحها الاستراتيجية كونها ترى في سوريا الامتداد الجغرافي والأمني لسياساتها مما دفعها للوقوف الى جانب الدولة السورية كحليف استراتيجي .
هذا التدخل والذي جاء بطلب من الدولة السورية شكل الاصرار الروسي على لعب دور أساسي في قضايا عالمية وفي صدارتها الحفاظ على السلم العالمي، وبخاصة عندما يكون في مواقف الولايات المتحدة وحلفائها تجاهل تام للقانون الدولي في ممارسة مهمات مجلس الأمن، وهذا الأمر يسجل لروسيا التي اشتغلت وطوال الفترات الماضية تحت مظلة القانون الدولي، محترمة الاعراف والقوانين والشرعية الدولية، لترسم صورتها العالمية من هذه الزاوية، في حين فقدت الكثير من الدول الكبرى احترامها لكل تلك الاعراف والقوانين الدولية وعملت في الاتجاه المعاكس بالاعتماد على قانون القوة وليس قوة القانون.
منح التدخل الروسي في سوريا بوتين الدورالكبير في رسم ملامح نظام عالمي جديد، وتغيير لموازين القوى الدولية والتحول من عالم أحادي القطبية الى عالم متعدد الأقطاب، ليعبر بوتين بالحضور الروسي في سوريا وأدائه في المسألة السورية من حالة الجمود في التفاعل مع القضايا الدولية إلى حالة الفاعل الرئيسي والذي بات بمقدوره تغيير المسار وقلب الطاولة على بقية الاطراف الفاعلة في الساحة الدولية وهذا ما شهدناه بشكل كبير ورئيسي في الساحة السورية وقدرة الروسي على اللعب بالعديد من الأورق وكسب النقاط ، وما مشهد الانتصارات السورية إلا واحدة مما حققه الروسي في مضمار الصراع الدولي .
في المسارين السياسي والعسكري على مستوى المشهد السوري يشهد بالقول أننا أمام تغير للاعبين الاساسيين فالانسحاب الامريكي ومن بعده التحالف الدولي والميدانية المعلنة عن نصر سوريا وحلفائها وإدارة الروسي للمسار السياسي بحنكة كبيرة أفقدت الامريكي قدرته اللعب على العديد من الأوراق ، وأعطت للروسي الحضور بصدارة عالية أكسبته حضورا على المستوى الدولي، مما عزز من فكرة تغير المناخ الدولي الحاكم للقضايا، وبات لدى العالم قناعة بتشكل فاعلين أساسيين غير الامريكي، وهؤلاء الفاعلين في مقدمتهم روسيا بكل ما تشكل لها من حضور دولي قوي فرضته الخطوات المدروسة والمحسوبة والثابتة لبوتين الرجل الذي أتقن اللعبة الدولية والدبلوماسية ليس على مستوى المسألة السورية وحسب وإنما على مستوى العديد من المحطات الدولية، إلى درجة متناهية في الدقة والحذر، بل في غاية البراعة والدهاء السياسي.
جملة من العوامل استطاعت بها روسيا فتح الباب للدخول الى الشرق الأوسط وأهمها الدور الروسي الجاد والثابت في مكافحة الارهاب والقضاء على داعش واخواتها، انفتاح العلاقات بشقيها السياسي والاقتصادي بين روسيا والعديد من دول المنطقة، صناعة روسيا لتحالفات قوية عكست القدرة الروسية على تشكيل تحالفات استرايتجية متينة تأسست على الثقة المتبادلة وخالية من التلاعب والخذلان، الصورة التي قدمتها روسيا لنفسها تجاه العالم كدولة تحترم تحالفاتها ولا تتنازل عن حلفائها، حجم القعود التي أبرمتها روسيا خلال الفترات القليلة الماضية بما عزز حالةً من التعاون الاقتصادي الواسع مع دول الشرق الاوسط، ومشهد الحراك الروسي والزيارات المتعددة في المنطقة واضحاً ، ليفتح انتصار روسيا في سوريا الابواب واسعة تجاه دول المنطقة ويُحدث تغيراً واضحاً في قضايا إقليمية .
استطاعت روسيا بجانب حليفتها ايران التي تعمقت علاقتها بها خلال الأزمة السورية الدخول من نافذة الفشل الامريكي والغربي في المنطقة عبر توظيف هذا الفشل لتُحدث تغييرا في القواعد والسياسات التي كانت أرستها أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، وتهيئ روسيا لنفسها العودة الهادئة إلى المنطقة واستعادة ما أفقدتها إياها امريكا أيام الاتحاد السوفيتي .
بوتين ومنذ العام 2007 تحديدا في مؤتمر ميونخ للأمن أعلن انطلاقة روسيا في المنطقة والعالم عبر شنه هجوما لاذعا على الولايات المتحدة في ذلك المؤتمر بسبب سياسة الهيمنة التي تنتهجها وانتقد في كلمته آنذاك الأحادية القطبية في إدارة العالم ليحذر العالم من إدارة أزمات وقضايا العالم بأحادية قطبية وما شكلته هذه الادارة من دمار وخراب شهد له ما جرى في العديد من دول المنطقة، ليمثل ذلك العام تاريخ اعلان عودة روسيا الى الواجهة العالمية ، وفي كلام بوتين في ذلك المؤتمر رسم للعديد من ملامح الدور والحضور الروسي المقبل في المنطقة والعالم .
مستوى وحجم الفاعلية الذي قدمته روسيا في التعامل مع العديد من القضايا الدولية يضعها في خانة اللاعب الأبرز والأهم دوليا، لتسطر روسيا لوجودها بقوة في المنطقة عبر انتهاج سياسة التوازن الناعم مع الأمريكي والذي كما يبدو يرى أنه بحاجة ماسة للانكفاء والانسحاب من المنطقة ومؤشرات ذلك باتت أكثر وضوحاً، واذا كان هنري كيسنجر بشر العالم قبل خمسة أعوام بقوله ” ان القرن القادم هو القرن الامريكي بإمتياز” فإن حقيقة المتغيرات القائمة وما تفزره من وقائع، تسقط هذه البشارة الامريكية وتعلن عن أن القرن القادم هو القرن الروسي بإمتياز، فهل تشهد الأيام المقبلة إعلاناً روسياً عن خلو منطقة الشرق الاوسط من التواجد والحضور الامريكي؟
استاذة علاقات دولية – دمشق