المفاضلات في الأدب الأندلسي الذهنية والأنساق لقد سَعَتْ هذه الأطروحة-حسب العنوان أعلاه- إلى مُقارَبَة الأندلس انطلاقا من تراثها الأدبي خاصة، ومن ثم الإنساني عموما، مُقارَبَةً نسَقِيةً، تسْتَكْنِهُ أبْعادَ بنيتها العميقة، وتُفَكِّكُ ذَرَّاتِ نسيجها ،وتُلَمْلِمُ أشْتاتُ مُنْجَز إبداعها البَيَاني، المُنْدَاح عبْر فضائها المكاني، المُنْتَبِذِ موقعًا قَصِيا، في شِبْهِ الجزيرة الإيبيرية، وعبْرَ فضائها الزماني المُمْتَدِّ أكثر من ثمانية قرون، وعبْرَ فضائها الإنساني المُرَكَّبِ الإثْنِيات والثقافات والخلْفيات، وحتى عبْر جَدَلِها الإيماني المُتَعَدِّدِ "المِلَلِ والأهْواء والنِّحَلِ"، وذلك كله تَتَبُّعًا لروح الأطروحة المُنْدَسَّةِ في صميم الذهنية الأندلسية، وكل الأنساق المنبثقة منها، نظرا لاعتقادي المبدئي بأن فاعلية فرضية "المفاضلات" كانت حاضرةً بقوة وراءَ المُنْجَزالأندلسي، بمُخْتلف حُقوله، وأنَّ اتخاذ منظور "المُفاضلة" آليةً لِمُقارَبَةِ مُجْمَل هذا المُنْجَز، يُعْتَبَرُ مدْخَلاً دِراسيا جديدا، وجديرا بالاهتمام، حيث يُفترضُ أنْ يُفْضِي إلى نتائجَ جديدةً، وعميقةً، ومُرَكَّبَة، تُساهِمُ في تسْليطِ الضوء على أسْرار هذه الظاهرة، ومُلاحَقة تَجَلِّيَاتِها، وتشْييدِ مِعْمَارية هَرَمِها، على أسُسٍ أكاديمية ركينة، مُنَافِية للمُلاحظَات السريعة الجزْئية، المُنْبَثَّةِ هنا وهناك، والمُنْبَثِقَةِ عن المَداخِلِ الدِّراسية الضيقة المألوفة في الأعمال السابقة، التي لم تتخذ "المُفاضَلاتِ" مَرْكزا لأطاريحها الأساسية.والحقيقة أن تَعَدُّدَ هذه الأبعاد، وشَسَاعَةَ الأطر، وتَلَوُّنَ التجَليات، وضآلةَ الرصيد البَحْثي المَاهِدِ في هذا المجال، كلُّها عواملُ- من بين أخرى-قد انْتَصَبَتْ عوَائقَ أمَامَ سُرْعة تَحَقُّقِ الأطروحة على الوجْه المَرْغوب، وأطالتْ أمَدَ مَخاضِها العسير ثَمَانِي حِجَجٍ دَأْبًا، عانَي الباحثُ فيها من تَطاوُلِ التنْقيب نفْضًا لرُفوف المَكتبة الأندلسية، أيْنَمَا أتِيحَ له التَّقَصِّي فيها، داخِلَ مُوريتانيا، والمغرب، وحتى بعض دول الخليج، مما أسْفَرَ عنْ مُرَاكَمَة مَادةٍ كثيرة، وغنية، ومتنوعة، وَرَّطَتْهُ في حيْرَةٍ، طالَ فيها جَدَلُ المُدَوَّنَةِ والمَنْهَجِ والمَنْهَجِيةِ، حيث بدا من شبه المستحيل هَضْمُ هذا الكَمِّ الهَائلِ من المَعْلومَاتِ، وإنْضاجِ تَصَوُّرٍ حَصِيفٍ حوله، يَسْتَوْعِبُ خيوطَ شَبَكَةِ الأطروحة، ويَتَحَكَّمُ في بِنَائِها، وفْقَ مِعْمارٍ مناسب، يصوغ مَلامحها المُتَعَدِّدَة، ويُصَمِّمُ عناصرَ هيْكلها المُرَكَّب، بما يتطلَّبُه ذلك من قوة اسْتشعار عالية الحساسية في التقاطِ خَيْطِ "المفاضلات" الناظم لهذا الشَّتَات، أيْنَمَا انْدَسَّ في رُكام المُدَوَّنَة التي اخترقتْ كلَّ الأجناس الأدبية، جامعةً عشراتِ النصوص الشعرية: قصيدا ورجزا، وموشحا وزجلا، وعشرات النصوص النثرية: رسائلَ ومَقاماتٍ وخُطَبًا، وعشرات الشَّذَراتِ التي تجاوزت التصنيف التقليدي للمُدوَّنة الأدبية، فتلَمَّسَتْ روحَ المفاضلة-خارجَ النص- حتى في المَظهَر، والمَوْقف، والمَبْدإ، والحَدَث، والتصَوُّر....وتتبَّعَتْ تجلِّياتِ النَّفَسِ المُفاضلاتي، عبْر مختلف مُستويات مَفهوم الأندلس، بيانا، ومكانا ، وزمانا، وإنسانا، وإيمانا، وعرفانا، مُسْتقيةً كُلَّ مواد بناء الأطروحة – في رُكامها الهائل - من مكتبة أندلسية، ترْبُو على مائتين من الكتب الموجودة بالفعل في نسيج البحث، وما يناهزها –تقريبا – من المراجع الموجودة فيه بالقوة، باعتبارها مُساهِمَةً في إضاءة الأرضية التي يتأسَّسُ عليها هذا المَشْروعُ الأكاديمي، ومُسَاهِمَةً في إنضاج التصور العام حوله، وإن لم تدْخله بمُقتبَسات مُباشرة.وقد تحكمت خطية وحدات العنوان، وترتيبها المنطقي- من الأخص إلى الخاص إلى العام- في بناء أبواب البحث ، حيث تمحض الباب الأول لشبكة مفهوم "المفاضلات" تأسيسا للأطروحة ، وانفرد الباب الثاني لــ "الأدب" مضمار العبقريات، بينما خصص الباب الثالث لـ "لأندلس" فضاء الهويات المتفاعلة، وكأن في ذلك إيحاء بأن المفاضلات ثمرة يانعة، والأدب غصنها النضير، والأندلس جذعها الراسخ ، الذي يمدها بالخصوبة والنماء .وقد اندرج تحت الأبواب الثلاثة أحد عشر فصلا، توزعت على سبعة وأربعين مبحثا ، كل عنوان منها يمثل أطروحة مستقلة، إلا أن شتات هذه الأطاريح الصغرى قد تناغم وتساوق في محيط أطروحة المفاضلات الأم ، رغم صعوبة التحكم منهجيا في هذا الفضاء المترامي الأطراف، حسب ما يلاحظ من خطة البحث المركبة البناء.