عبير الحيالي
شكلت العلاقات الأمريكية – السعودية التي استمرت قرابة ثمانية عقود، خطاً أحمراً لكل الساسة الأمريكيين الذين دخلوا البيت الأبيض وعلى مختلف توجهاتهم الديمقراطية والجمهورية. فالسعودية كانت المنتج الأول للنفط في العالم، بينما كانت الولايات المتحدة المستهلك الأكبر لهذا النفط. كما قدمت السعودية المزيد من السيادة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة عن طريق تحرير فواتير النفط بالدولار الأمريكي وهو ما يطلق عليه اسم “البترودولار”. هذه المصالح المتشابكة والمعقدة لم تأخذ بعداً اقتصادياً فقط، وإنما شكل الجانب الأمني جزءاً كبيراً منها، وهو ما عكسته السياسة الأمريكية فعلياً على أرض الواقع وأسمته “عقيدة كارتر”، حيث أخذت الولايات المتحدة على عاتقها حماية حلفائها المصدرين للنفط في المنطقة وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، ومساعدتهم على الوقوف في وجه أي تهديد داخلي او خارجي، وربما أفضل نموذج لتطبيق هذه السياسة هو تحرير للكويت في عام 1991.على مر العقود استطاعت هذه العلاقة البراغماتية في جوهرها، والقائمة على مبدأ الاحتياجات والمصالح المتبادلة، والبعيدة كل البعد عن القيم المشتركة أن تثبت متانة وقوة التحالف الاقتصادي، الأمني، الاستراتيجي الذي جمع بين البلدين وقدرته على الثبات.
شهدت هذه العلاقات الاستراتيجية والحيوية توتراً حقيقياً منذ سمحت الولايات المتحدة لإيران بدخول العراق والسيطرة عليها بعد غزو 2003. ولكن هذه التوترات أخذت شكلاً مختلفاً بعدما وقع الرئيس أوباما الاتفاق النووي مع إيران كنتيجة لمحادثات سرية بين الطرفين. وهكذا تنبه الجانب السعودي إلى أن الحليف التاريخي من الممكن أن يتخلى عنها، وأنها فقدت جزءاً كبيراً من الدعم ضد عدوها الإقليمي إيران. والسؤال هنا على أين يتجه التحالف السعودي الأمريكي؟
وبعيداً عن إيران، هناك عوامل رئيسية لتغيير متوقع في هذه العلاقة. أولها تغير النظام العالمي من أحادية القطب إلى عالم متعدد الأقطاب بعد صعود الصين وتحولها إلى منافس حقيقي، وهو ما حمل معه رياح القضاء على الهيمنة الأمريكية على العالم. ومن المعروف أن منطقة الشرق الأوسط هي إحدى أهم ساحات التنافس، وخصوصاً بين روسيا والولايات المتحدة والذي تبلور بشكل واضح بعد 2011. ومع هذا التغير بدأت الولايات المتحددة بتغيير نهجها السياسي في المنطقة بشكل عام، كما شرعت بعمليات مناورة من أجل الخروج والانسحاب بشكل تدريجي من المنطقة العربية لأنها تريد أن تغير مسارها باتجاه آسيا، حيث مصالحها الكبرى والتحديات المصيرية مع الصين والهند ومجموعة شنغهاي ودول “البريكس”، في محاولة لتثبيت نفوذها أمام هذه التحديات.
ومثلها المملكة بدأت تشعر أن سياسة الولايات المتحدة تجاهها هي سياسة مراوغة واستنزاف مالي بصفقات سلاح غالباً لم تكن مفيدة فبدأت بمراجعة سياستها الخارجية. لم تكن الولايات المتحدة مخلصة لحليفها الأبرز في المنطقة، وظهر ذلك جلياً عندما أحجمت الولايات المتحدة عن منح المملكة المعرفة التكنولوجية التي تساعد في بناء صناعة دفاعية محلية، فهي تريد أن تكون البائع فقط وليس الشريك في المجال العسكري. وهكذا فتحت الأبواب أمام منافسي الولايات المتحدة للعب دوراً أكثر فاعليه في تنويع مصادر الأسلحة الموردة إلى المملكة، وهذا ما حدث عندما قامت الصين ببناء مصنع للطائرات بدون طيار في السعودية. وربما هذا ما سنشهده في المستقبل أمام طموح المملكة في مجال الطاقة النووية حيث سنشهد تعطيل من الجانب الأمريكي في مقابل مباركة روسية صينية، وستفتح المملكة أبوابها لحلفاء جدد بناءً على مصالحها السياسية والاقتصادية.
ارتفعت معدلات انتاج النفط الخام الأمريكي بشكل خيالي، حيث وصل إلى أكثر من 12 مليون برميل يومياً مما أدى إلى انخفاض الكمية التي تستوردها الولايات المتحدة من المملكة العربية السعودية، والتي ستتناقص عبر السنوات القادمة مع زيادة انتاج النفط الأمريكي وتطور بنية الجغرافية السياسية للطاقة عن طريق الاعتماد على الطاقة البديلة. وهذا يؤشر على أن القاعدة الرئيسية التي قامت عليها هذه العلاقة بدت بالانصهار التدريجي. وهذا ما دفع الرياض بالمقابل إلى العمل على إيجاد أسواق بديلة تعوض خسارتها للسوق الامريكية، فعملت بجد على التقارب مع روسيا وآسيا وخصوصاً الصين. ومن المعروف أن ارتفاع التبادل الاقتصادي بين الدول يؤدي إلى زيادة التعاون السياسي، وهي الفرضية المستقبلية لتغير العلاقات بين السعودية من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
ربما نسأل هنا.. هل نحن على أبواب انهيار هذه العلاقة؟ ويمكننا القول إنها ستشهد تراجعاً تدريجياً خلال السنوات القادمة، بسبب التراجع في مستوى الحاجة لهذه الشراكة وتغير الضرورات لدى الطرفين، وهو نتيجة طبيعية للعلاقات القائمة على مفهوم المصالح المشتركة وليس القيم المشتركة، كما أنها ستتحول إلى علاقة أكثر عرضة للتقلبات التي سيفرضها الوضع الدولي والإقليمي. لذلك ستتوجه الولايات المتحدة إلى تحسين العلاقات مع إيران، وسترحب إيران التي ستتمكن من الحفاظ على مكاسبها الإقليمية الأخيرة، على حساب دول الخليج وفي مقدمتها السعودية التي من المرجح أن تواجه بعض الصعوبات في ملفات حقوق الإنسان التي تم التجاوز عنها بسبب التغطية الأمريكية سابقاً.
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية- لندن