كل يوم يستقبل من النخبة الغربية خيرة أبنائها ليندمجوا في سلك المسلمين المؤمنين، وقد أخذ الإسلام مكانه في دائرة السلوك في الأوقات الحرجة والساحات المضطربة الحساسة تصبح مهمة المصلحين أكثر خطورة وأشد حرجا، ذلك أن عموم الناس تتحكم فيهم العواطف وتقودهم العوائد إلى ما يتصورونه صوابا فيقل التعقل ويسطر منطق المعتاد المطلوب فتجد نفسك في زفة الصخب يفرض عليك أن تلوح مع الماشين بلافتات كتبها غيرك وتوقع
بيانات حررها سواك، وليس لك أن تتردد، وإن فعلت فوسع صدرك لسيل التحامل والتشكيك الذي سيحاول أن يجرف ما معك من الثوابت والأفكار والتأملات وليس هذا بجديد فقد قال الإمام الشاطبي في مقدمة كتابه القيم الاعتصام
(وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق، وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت، لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب....)
ثم يضيف وقد نقل عن سيد العُباد بعد الصحابة أويس القرني أنه قال : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا : نأمرهم بالمعروف ، فيشتمون أعراضنا، ويجدون في ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى والله لقد رموني بالعظائم، وأيم الله ، لا أدع أن أقوم فيهم بحقه")
وحسبك بأويس القرني المزكى من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم،وقد تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرجو دعاؤه المخبت، وفي صفحات العباد والزهاد مخلد في الرعيل الأول.
ثم بالشاطبي وهو رجل دار علمه بين "الموافقات" التامة للشريعة "والاعتصام" بحبلها، ثم لم يسلما من الاتهام في الدين والتشكيك في النيات، فهي إذ طريق مورودة، وضريبة لازمة لمن يتقدم للإصلاح ويغالب الباطل بحكمة وروية.
ربانيون أم متطرفون
يريدنا الله ربانيين ويريد البعض أن يجعلنا متطرفين متجاوزا بذلك المنهج الواضح الذي حددته الآية الكريمة وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ
وإن مهمة الحركة الإسلامية الوسطية هي مهمة التغيير البناء، وهي إعادة صياغة المجتمعات بما يقترب من مجتمع النبوة، وبناء جملة من الأعراف والقيم تحل محل ما لا يمت للدين بصلة أو ما يناقضه مما تواضع عليه الناس وتوارثوه، حتى أقاموه مقام الدين وجعلوه السنة لا محيد عنها والأصل الذي لا يمارون فيه.
وليس الرباني بمعنى الآية السابقة ذلك الغوغائي المتعصب – وإن طابت نيته - الذي ينساق لمن ينعق له بل هو الداعية الواضح الرؤية، العميق المأخذ الذي يرفع الراية، ويشق لقومه طريق الفلاح والنجاح وإن خالفت أذواقهم وما يألفون قال محمد بن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره (و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل:"ولكن كونوا ربانيين" .
ف"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: "وهم فوق الأحبار"، لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم.)
ولقد أوردت هذه النقول لأدلل بها على أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح أحوال الأمة ليس سهلا ولا ميسورا وأنه يقتضي من العلم والحكمة وبعد النظر وإعمال فقه الموازنات الشيء الكثير وتلك مسؤولية من يتصدرون المشهد ويشهدون للناس أوعليهم، مسؤوليتهم أن يخلصوا لهم وينصحوهم بما يرونه – حقا- شرعا ومصلحة وإن خالف أذواقهم وأهواءهم
تحقيق المناط
لا خلاف في توقير الجناب النبوي الشريف، بل شلت يد العابث بذلك الجناب العظيم، ويستحق العالم كله أن يفنى فداء لشعرة من النبي صلى الله عليه، ذلك محل إجماع كامل.
وأن الضروري التنبيه إلى أن الدولة الإسلامية وقوانينها التي تحصن الجناب الشريف والرموز الإسلامية، تجعل أي مساس بتلك المكانة وتلك الرموز جريمة تستحق العقاب القانوني من قبل الدولة ومؤسساتها لا الآحاد والأفراد، فليس لأولئك حق تنفيذ القانون.
إنما الخلاف هو في مجتمعات أخرى ليست تحت سيطرة الدولة الإسلامية ولا تحتكم إلى الإسلام وقوانينه ولا يدير المسلمون شأنها العام، فهنا يقع الخلاف حينما نحمل السلاح إليها أو فيها لتأديبها على أخطائها أو أخطاء بعض دوائرها، لإثارتها على المسلمين وتعكير صفو شعوبها على الدعوة، هنا مكمن الخلاف ومثار النقاش.
تشويش متعمد
في الأيام المنصرمة وبعد الهجوم المسلح الذي قاده أفراد من المسلمين في فرنسا، حيث استخدموا القوة المسلحة، يرون في ذلك نصرة للنبي صلى الله عليه وانتقاما لعرضه الشريف من تطاول جويريدة الخزي والعار الفرنسية على الجناب النبوي الشريف.
وبعد ما قمت به وغيري من قادة الحزب من تسجيل موقفنا من استعمال القوة والسلاح وهو موقف مبدئي ينسجم مع أفكارنا وأطروحاتنا المسطرة والمنطوقة الرافضة للعنف واستخدامه باسم الدين الإسلامي الحنيف الذي يتأذى من تلك التصرفات التي تجلب عليه وعلى أتباعه من الحرب والتضييق والتشويه ما الله به عليم.
وموقفنا السابق ثابت منسجم مع ما سبقه، مما عبرنا عنه في كل مرة استخدم فيها العنف سواء في تورين أو الغلاوية ولمغيطي من قبل ذلك – ونحن في السجن والمضايقة – ثم في قتل الفرنسيين في ألاك، وعموم العمليات التي استهدفت الجيش الموريتاني أو ضيوف البلد، تماما كما كان رفضنا لاستيلاء الجماعات المسلحة على المدن المالية بالقوة والعنف، وكذا أيضا رفضنا الواضح للحرب الفرنسية في مالي، وكل ذلك مؤطر برؤية واضحة وراسخة قوامها رفض العنف – ما لم يكن في ساحة حصحص الحق فيه واتضح، من مقاومة لاشية فيها يدفع فيها عن وطن محتل أو بلد تعرض للغزو، كما هو الحال في فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني الغاشم، وهو أيضا ورفض الاحتلال والتدخل الأجنبي
وتعرضنا- على إثر ذلك الموقف- لحملة هوجاء من فريقين الأول متربص يذكي التحريض ويدفع بكل أفعالنا وأقوالنا إلى أسوء الاحتمالات وهذا الفريق تدفعه جهات على صلة بدوائر الخصوم التقليديين والدوائر المحاربة التي تريد الإسلاميين مجموعة متطرفة لا بد أن تثبت التهمة على نفسها وتشفي غليل أعدائها بيدها فإن فعلنا غير ما أرادت تلك الدوائر وأظهرنا روية وحكمة وتعقلا عير متوقع لدى الأعداء ناحت نائحتهم وانطلق رغاؤهم يزبد بألوان التهم ...نفعية وعمالة وطمعا إلى آخره
ولا تخطئ عين المتبصر أن تلك الحملة كانت انتقائية جدا، فتحاملت على حزب تواصل ومواقفه، و وربما وظفت أو انساقت – وقد جبنت عن بيان حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وكذا بيان الحكومة الموريتانية الصريح في إدانة تلك العملية، ولكنه عوار المنطق وغياب الإنصاف هو الدافع وراء ذلك.
بل كان من أولئك من لا يرى للإسلام حكما ولا حاكمية، ولا من يفوت فرصة للنيل منه ومن أحكامه ورموزه، ولكن اهتبال فرص الإساءة ربما حول الذئب إلى حمل ودفع بغاث الطير إلى الاستنسار.
أما الصنف الثاني فهم الخيرون المتدينون ومن هؤلاء من لم يستوعبوا بعد مميزات المشروع الإسلامي ولم يدرك مراميه الإصلاحية الجذرية التي تتعلق بتصحيح كثير من المسلمات الموروثة والأدبيات المتداولة المحسوبة عليه، والإسلام في نظرنا يرفضها ولا يقبلها.
ومن تلك المسلمات المغلوطة أن قتل غير المسلمين أمر مباح وجائز وجهاد في سبيل الله خصوصا إذا كانوا من المتطاولين على الدين والمستهزئين بمعانيه ورموزه وقيمه.
ولأن الدافع لهؤلاء هو مساحة الحب المشتركة الواسعة لنبينا صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه، وكونه نبراس حياتنا، ولأن حياته وأفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم هي مدار الاقتداء، وأساس التقليد والتمثل، ولأن مقاصد الشريعة الكلية وأحكامها العامة، وما تقتضي من فقه للأولويات وسبر لأغوار النوازل قبل الإقدام عليها، وربط الأفعال بما يتوقع من مآلاتها، ولأن الإسلام والمسلمين جسم مشترك، فينبغي أن تراعى مصالح الإسلام والمسلمين في كل فعل أو قول يقصد به خدمة الإسلام، حتى لا نكون كما قال الشاعر
رام نفعا فضر من غير قصد
ومن البر ما يكون عقوقا
رأيت أن من الواجب نقاش مسألة العنف وموقعها اليوم في خطاب الفقه والفكر الإسلامي وفي التعامل مع الآخر محاربا أو مسالما – انطلاقا من هديه صلى الله عليه وسلم.
وضمن ذلك معرفة في أي عالم نتحرك وفي أي ساحة نجول وأي مرمى تصله سهامنا.
الصبر على الأذى..هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم
يتضح من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المتطاولين الذين لم يلجوا أوار الحرب العملية ضده، أنهم من أمة الرسالة التي تستهدفها الدعوة
ولهذا المعنى دلائل كثيرة في حياة النبي صلى الله عليه، فما لذي منع الرسول صلى الله عليه وأصحابه الكرام من الانتقام من عدو الله تعالى عقبة بن أبي معيط وهو يضع سلا جزور على رأس سيد الوجود وأرفع الخلق مقاما محمد صلى الله عليه وسلم، ولو دعا لأجابت الأسنة والرماح، ولأطارت رأس بن أبي معيط، ولكن كان للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ما يشغله من أمر الدعوة وزيادة أعداد أبنائها، وتقدير ما يترتب على حمل السيف وله من الوعي بالزمن والمرحلة التي يعيشها المسلمون حيئنذ، ما دفعه صلى الله عليه وسلم إلى تأجيل عقاب أبي معيط والنضر بن الحارث إلى يوم بدر حيث قتلوا شر قتلة في ساحة حرب أثناء معركة لا لبس فيها، وذلك بعد أن قوي ساعد الإسلام واشتد عضده.
وما قصة الطائف وأفعال سفهائها من سفهاء مكة ببعيد، إذ هي تجسيد عملي للهدي النبوي في التعامل مع استهداف المقام الشريف، حيث طال الأذى جسده الشريف، وأدمت حجارة الغواة في الطائف أكرم قدمين مشتا على الأرض، "فطاب من طيبهن القاع والأكم"
كانت لحظة مفصلية في التاريخ، تجاوب فيها الملكوت الأعلى مع هذا الخطب الأجل، وطفق الملائكة يعرضون الانتقام بإطباق الجبلين على سفهاء الطائف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح – بأبي هو وأمي – رأفته بالمخلوقات وشفقته على المدعوين واضعا معالم منهج مع المعاندين " لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله....)
لقد قرر هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن كل المخلوقات هدف لرسالته حيث قال الله تعالى " وما أرسلناك إلا كافة للناس"فهو يسعى إلى هدايتهم ويشفق عليهم وإن أساءوا ويرحمهم وإن ظلموا.
وعند دخول عمير بن وهب - رضي الله عنه- قادما من مكة وقد خطط لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عارضا ضرب عنقه، وبعد أن اكتشف ستر الغيب أمام النبي صلى الله عليه وسلم عما خطط له عمير بن وهب وصفوان بن أمية في الحجر من مكة، إلا أن هداية الله ورحمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أفادت الدعوة من حزر عمير بن وهب يوم بدر، فأسلم وحسن إسلامه.
وتبرز ضمن هذه الأمثلة حادثة الإفك، وهو وإن دار داخل المجتمع المسلم، إلا أنه كان كما وصفه الله تعالى عظيما، حيث تناول أطهر عرق وأشرف نسل، وأكرم بيت وأطهر زوج، ورغم تبرئة القرآن للجناب النبوي الشريف، والوعد الإلهي بالعذاب الغليظ للذين تولوا كبره من أولئك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تعايش مع رأس النفاق الذي خطط لحديث الإفك ونشره بين الناس ونفخ في لهبه، وهو نفس المجرم الذي سب النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله جل جلاله " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" وقد تولى الله الرد عن نبيه وتكذيب رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وهو نفس المتمرد الخائن الذي سحب ثلاثمائة من أنصاره يوم أحد مرتكبا بذلك خيانة كبيرة ضد الجيش المسلم المصابر.
ورغم كل تلك الجرائم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصفه ولم يأذن بقتله، رغم أنه مستحق لذلك.
والذي يتضح من هديه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين هو التعايش مع من لا يحمل السلاح ضد الدعوة ولا يقاوم بالقوة مسيرة الحق ودعوة الإسلام.
ولا تزال الشواهد في هذا المجال تترى وتتكاثر، مؤسسة لمنهج الرحمة والهداية الذي رسخه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه كلمة باقية فيمن بعده.
دليل لنا
يستعرض البعض قصة قتل اليهودي كعب بن الأشرف في جواز فرق القتل على المتطاول من الكافرين، وفي سياق القصة وجوانبها ما يعطي صورة أكثر وضوحا ومعنى أكثر عمقا من الذي يتصوره الناس أول وهلة
فقد كان كعب بن الأشرف من شياطين الكفر الذين جمعوا بين التخطيط للحرب على المسلمين وتأليب العرب عليهم، وجمع أوباش وأشتات الكفار ليلتئموا على حرب رسول الله صل الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وهو شاعر بذيء هجاء للإسلام، ونبيه صلى الله عليه وسلم، وهو متآمر، وحسبنا في سياق هذا الموقف أن نورد نص ابن اسحاق كما أورده ابن كثير في البداية والنهاية " حيث قال : كان من حديث كعب بن الأشرف، وكان رجلا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وأمه من بني النضير أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر، حين قدم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج إلى مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فأنزلته وأكرمته.
وجعل يحرض على قتال رسول الله وينشد الأشعار، ويندب من قتل من المشركين يوم بدر، فذكر ابن إسحاق قصيدته التي أولها:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع)
قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم للمدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله ، وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله - كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة -: «من لابن الأشرف» فقال له محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل إن قدرت على ذلك).
وفي هذه القضية فقه كبير، فإن ابن الأشرف كان بمثابة جيش كامل ودولة، اجتمع فيه التخطيط والدعاية والتشويه، والتآمر ثم التجهيز للغزو، فلم يكن قتله من بد، إذ هو مع ذلك ناكث عهد سبق أن أبرمه مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
صلح الحديبية وفقه الدولة
كان صلح الحديبية إقرارا من قريش بتوازن القوى، ومثل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم بداية فقه المعاهدات والسلم الدولي وقيمة الاتفاقيات المبرمة باسم الدولة والجماعة المؤمنة.
وفي السياق ذاته قبل النبي صلى الله عليه وسلم صياغة الاتفاق بأسلوب وألفاظ لا تنتمي إلى الحقول الدلالية للشريعة، وهو ما يجعلنا أمام فقه في السياسة سهل ومرن يقبل محو صفة الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم كي تصبح الرسالة المحاربة طرفا يعقد الاتفاقيات ويحاور ويناور كما لا يشترط ذلك الفقه لنفاذ الاتفاقيات وإقرارنا بها الاصطباغ بألفاظ الشريعة واللغة القرآنية، ولقد تحقق ذلك أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " لقد شهدت في دار ابن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"
لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل وهو يرسف في أغلاله إلى قريش، ورفض استقبال أبي بصير رضي الله، مفرقا في ذلك بين موقف الدولة المسلمة الملزمة بعهودها ومواثيقها وبين تصرفات العصبة المقاتلة.
ولقد فهم الصحابيان أبو بصير وأبو جندل موقف النبي صلى الله عليه فلم يدفعهما اضطراره صلى الله عليه للوفاء بالاتفاقيات الدولية إلى الانسلاخ من الإسلام، ثم عادا بعد ذلك إلى صف المسلمين وكنف الجماعة والدولة.
مصالح للدعوة يجب مراعاتها
إن الشهادة في سبيل الله – حسب تعبير الأستاذ فهمي هويدي – قنبلة ضخمة لا ينبغي أن تترك بيد من لا يقدر قيمتها، ولهذا فإن بعض العمليات المسلحة التي لا تراعي مآلات الأمور تنسف جسور الدعوة التي شادها المسلمون منذ عقود.
إن الإسلام ينتشر في أروبا بشكل متزايد، وفيالاجتماعي للناس في الغرب، ولهذا يحتاج كل فعل هنالك إلى مراعاة مصالح وأهداف المسلمين في تلك البلدان التي يؤمنون فيها على أنفسهم وأموالهم أكثر مما يأمنون في أكثر عواصم الديكتاتوريات العربية
نحن أمام جاليات كبيرة تنتمي أصالة إلى بلدانها الغربية، أو هي من الوافدين وأبنائهم الذين يقيمون في تلك الأرض ويغالبون منذ عقود من أجل أن يرفعوا للإسلام راية وأن يمهدوا له موطئ قدم، قدموا في ذلك التضحيات الجسام وصبروا وصابروا، وهم اليوم – ثم المسلمون من بعدهم – الأكثر تضررا من أي عمل – مهما كانت دوافعه وعواطف أصحابه المقدرة – ولا شك أن الإسلام في فرنسا مقبل على أيام عصيبات، فحين يتحدث مسؤول فرنسي كبير بالقطع عن " نهاية عهد الأعياد الخاصة بالمسلمين، ونهاية عهد النقاب وزيادة المساجد، والصلاة في الساحات" فنحن أمام كارثة جديدة.
وللبعض أن يقول إن هذه الأحداث نكبة وستزول، تلك حقيقة ولكن ليس من مهامنا استدرار الأزمات ولا استمطار النكبات، مهمتنا أن نأخذ للحق يدا وأن نرفع له صوتا وأن نمهد له في القلوب تمهيدا، ليس من مهامنا أن تتحول تلك العمليات إلى وقود في شرايين التطرف اليهودي والمسيحي لتداس للمسلمين كرامة جديدة، ولينالوا من المضايقة والتصعيد قسطا جديدا هم في غنى عنه.
إن ساحة الجهاد، هنالك هي ساحة دعوة وعمل، ساحة ثقافة وإبداع، ساحة تمكين واستمرا، وإزالة للشبهات، وهي تحتاج الدعم في هذا التوجه لا التشويش عليها أو كبح مسارها بأعمال تعيدها للخلف وتهدم بعض ما شادت
وفي صاحب الفيلم عبرة
إن فقه المآلات فقه عجيب، فلقد علمتنا الظروف أن هذه المحن قد تتحول إلى منح وأن لا شيئ بعيد من رحمه الله ولا شيئ بعيد من عقابه إن أزفت الرحمة أو أطل العذاب
لقد تحول صاحب الفيلم المسيئ إلى داعية مسلم، خلع ثوب الكفر والضلالة ولبس ثوب الإسلام الناصع، وخرج من قلبه غله وفكت عن علقه أغلاله، ، بل جثا على الركب أمام الضريح الشريف للنبي صلى الله باكيا معتذرا للرحمة المهداة عما بدر منه، فجب الإسلام ماضيه وانطلق هو اليوم كالسهم ينشر الإسلام الذي كان يعادي، وينصر الرسول – صلى الله عليه وسلم الذي كان يناوئ
حتى لا تتكرر التجربة الجزائرية
هالني في الأيام الماضية الدفع إلى شيطنة مواقف التروي التي عبر عنها حزب تواصل، حيث ظهرت بعض الدوائر المقربة من الدولة وهي تدفع المجتمع نحو الانفجار والتطرف غير عابئة بأن الأمر قد يخرج عن دائرة الضبط، ولكن العمى السياسي قد يدفع بعض الخصوم إلى أن يزرعوا ضرهم بأيديهم.
لقد كان المفكر الإسلامي الجزائري محفوظ نحناح شجاعا وواضحا في رفض العنف والانجرار إليه في التجربة الجزائرية المعاصرة وفقد في سبيل هذا الموقف صنوه الذبيح أبو سليماني رحمه الله، وأعمل التطرف سيف القتل في أتباع وأبناء حركة مجتمع السلم، حتى ألجأه الأمر إلى أن يعلن في حزن أنه يعيش " بين الغشاش والرشاش"
وفي المقابل انحازت أفواج من الشباب قمم الجبال وحملت السلاح على المجتمع والدولة، وشاركت من حيث تدري أو لا تدري في قهقرة مسيرة وطنها نحو النمو والاستقرار السياسي وأزهقت في ذلك أرواح غالية وبددت أموال ودفع الشعب الجزائري العظيم مئات الآلاف من القتلى في تلك العشرية الدامية قبل أن يفاجئ مدني مرزاق قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ، باتفاق للسلم والمصالحة لا يعدو أن يكون ضمانا فقط " لدخول الشباب من الجبل وبقاء رؤوسهم فوق أعناقهم" ليغلق الملف بعيدا عن السؤال الملح عما ضاع من أرواح الجزائريين وسلم وطنهم، فيما ضاع ولم ضاع
لقد عبر هؤلاء أنهارا من الدم وسنوات من الألم قبل أن يعودوا لما دعا إليه نحناح وأخوته ولم يجاملوا فيه خطاب التطرف الطاغي يومها،
ولو أن أصحاب الجبل استبانوا الرشد قبل ضحى السنين العشر، لجنبوا الجزائر والمغرب العربي والساحل هذه الحرب الضروس التي مهدت للقوى الغربية للتحكم أكثر في مسارات الشعوب وقرارات الحكم، ولو كان المرحوم نحناح وإخوانه من " غزية" لأخذوا من شعف الجبال وبطون الأدوية مغارات ومدخلا، ولكنهم كانوا دعاة تغيير متعقل ورعاة مجتمع سلم.
إذا ما القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
فما أحوجنا اليوم إلى وضع تصور صارم للتعامل مع السلم والعنف، وترصيف شارع الرفض بفقه المآلات حتى لا تنحرف قاطرة الدعوة وتحترق سمعة الرسالة في ردات فعل غير مدروسة، تثير على الإسلام من الشر أكثر مما تدفع عنه من البلاء.
ولو كانت السلطة اليوم في بلدنا تدرك خطورة "الخطاب القاعدي" الذي تدفع له دوائر في دين الملك يحملها الغرق السياسي على التشبث ولو بقشة الدفع بالمجتمع نحو هاوية السلاح وخطاب المواجهة الخاسرة.
إن في أنشطة السلم وألوان الاحتجاج من مسيرات واحتجاجات وسحب للسفراء وإغراق بالمراسلات إضافة إلى أشكال المقاطعة الاقتصادية، كما فعل الملايين الثلاثة الذين قاطعوا موقع غوغل وأنزلوه إلى الدرجة الثانية عالميا، تلك ألوان من النضال مؤثرة في الإعلام ومضرة بالخصم، ومتفقة مع صياغات الحديبية.