تداعيّات مقتل إسراء غريب

سبت, 09/28/2019 - 07:34

رجاء بكريّة

((.. تُرى لماذا يستهتر مجتمع واسع، رحبٌ طولا وعرضا، وبأكتاف ساقطة لهذا الحدّ باستقامة قوامِهِ حين يسيلُ دم امرأة من لسانِهِ حدّ الإغتسال بلؤمِ خطيئتهِ، وفي حمّام بخار جاف، هو المشنشل والمُبلّل خطايا؟))، رجاء.ب

قد لا تكون المرّة الأولى الّتي أكتب فيها عن جرائم شرف العائلة في وطننا المحاصر بكبتِهِ ومحدوديّة ضميره، وتراجع رسالاتهِ الأخلاقيّة والدّينيّة، لكنّها ربّما المرّة الأولى الّتي أكتب فيها بوجع عميق يوازي مساحة القرف في عالم عربيّ كبير. لا أعرف كم من هذه الجرائم حدثت في السّلطة الفلسطينيّة، لكنّي أتابعها في كلّ القرى والمدن داخل ال 48 بقلب دمّاهُ القهر وبعثرته النّقمة أشلاء. نقمة على كلّ من عرف وسكت، كلّ من زيّف وتفاخر، وعلى كلّ من تواطأ وتفذلك معتقدا أنّه عبقريّ في مسح تورّطه بالأدلّة الدّامغة.

ما حدث مع إسراء غريب يجب أن تحاسَب عليه منظومة كاملة، ويُقال الرّأس الّذي يقف عليها من منطقة نفوذه، بل وأن يتدخّل الرّئيس الفلسطيني شخصيّا كي يوقف هذا العهر المستشري في جحور لا يُكشف عن تفاصيل بذاءاتها السريّة. ملزم هذا النّظام أن يُشَهَّر بجبنهِ وتواطئه وانمساخ ذممهِ. وما لم يحاسب الجميع الآن سوف تكون منظومة الصحّة الفلسطينيّة كاملة تحت مجهر الإدانة والفضيحة، فضيحة لا تغتفر. وسوف تصير دماء الشّهداء شهادات كذب بحقّ مواقف صدق فاصلة في تاريخ النّضال البشري الفلسطيني والعالمي على حدّ سوااء.

تذكّرتُ دعاء أمّي على الجُناة وهي تلقي برأسها على الوسادة وتختنقُ بحروفها، وأنا أسجّل في ساعة متأخّرة من ليل جُمعة مقالتي هذه وأرتجف غضبا. تساءلتُ، كم من الاباء والأمّهات يعرفون معنى الرّحمة بحقّ بناتهم. وكم من الأخوة والأخوات يدركون طول هذا الشّريان الممتد من أعناقهم حتّى رسغ الضحيّة الّتي تنزف. يحدّقون ببحر دمها ويستكثرون حتّى الشّاش عليها؟ فكّرت بكلّ الرّجال الّذين سينمسخون قرودا في عيون كلّ من يصادفهم بعد هذه الحادثة القحباء ويستصعبون تذكّر تقاسيم وجوههم في الزّمن الماضي الخالية من الشّعر الكثيف والذّيل الّذي لا يقصر مهما بالغوا في عمليّات التّقصير والتّجميل. وعُدتُ سنوات بالغة الوجع إلى طفولتي وحادثة البنت الّتي سمعتُ نُتَفَ قصّتها مع أخيها الّذي خدعها برحلة إلى “منطقة الغربيّة، شمال فلسطين”، وهي منطقة نائيّة حينذاك وعِره في أقصى القرية، وهناك تمّ تكتيفها مثل نعجة، وذبحها بلا رحمة لمجرّد أنّ الأخ شكّ بخيانتها لشرفها. لم أفهم حينها معنى شرف لصغر سنّي، لكنّي بقيت ملتصقة بخشب الباب الموارب أسترق السّمع لتفسير أمّي وعمّتي المسترسلتين لتفاصيل ذات شجون. بقيت أصيخ السّمع مكبوتة النَّفَس حتّى اللّحظة الّتي كشفتا فيها عن زغرودة العمّة، عمّة الضحيّة، الّتي خرجت بقماشة قطنيّة مبلّلة بالدّم الزّنخ تبرّىء ذمّة القتيلة. أذكر التّفاصيل، كأنّ الحادثة جرت أمس كيف بقيتُ لأيّام أتوهّم حبّة ملبّس ملتصقة في حلقي ولا أقوى على بلعها أو بصقها بوجه هذا العالم الرّزيل. وكيف عجزتُ عن أكل الكنافة، وهي الحلوى النّادرة في قريتنا حينذاك لا يشتريها غير الموسرين، لأنّي تخيّلتها تتزحلق في حلقي بدم تلك الصبيّة الّتي رأيتها ذات يوم تبيع الأحذية في دكّانهم الصّغير والمُعَرَّم أحذية من كلّ لون وصنف. بقيتُ شهورا وأنا أردّد “لا يستحّقون طعاما غير الأحذية”، فيغزو الكاوتشوك أنفي وأحسّ بالإختناق، حتّى داهمتُ عينيّ أخي المذعور من غرابتي، وكان أصغر منّي سنّا وسألتهُ، لماذا كلّ رجال العالم ساقطون حدّ أنّ السّقوط ينذعر من كدمات ضمائرهم؟ لم يقل شيئا، فقط حدّق فيّ وسألني: مالِك خَيتا. فسألتهُ: هل سمعتَ كيف قتلوا تلك المسكينة؟ فعلّق بقرف: هذول بقر. تحت هذه العبارة وقّعتُ بنزاهة روحهِ.

أيّام رعب طويلة عشتها مع قصّة زهراء في موسم شتاء قاصف وساحق، وذكرى دمها الّذي جرفتهُ سيول السّناسل وملأ الآبار في كلّ مرّة من جديد. ترى لماذا يستهتر مجتمع واسع، رحب، طولا وعرضا، وبأكتاف ساقطة لهذا الحدّ باستقامة قوامِهِ حين يسيلُ دم امرأة من لسانه حدّ الإغتسال بلؤمِ خطيئتهِ، وفي حمّام بخار جاف، هو المشنشل والمُبلّل خطايا؟ كم تدرّب هذا الضّمير على موت المشاعر، وعلى فعل المعصية حتّى اعتبر قتلها بمرتبة دَوس ذبابة بطرف حذاء؟ ما أوهر العتمة الّتي تسكن مخازن الأحذية الّتي لأرواحنا الخّرِفة. خِرْبَة نحن في هذا الزّمن الخرِب.

 لقد حاولت عائلة إسراء غريب تصحيح الرّواية ألف مرّة حين تبّلت حكاية أثر الضّرب المُبَرِّح على كامل جسدِها بتخريفةِ التخلّص من الجنّ الّذي يستوطنه. نعم لقد كان الجنّ الآدميّ يقف على رأسهِ رتل من أفراد عائلة بلا معالم انتماء. الأخ والأخت وزوج الأخت. كيف شرّعت الأم بابها لكلّ هذه المعاصي؟ كيف سكتت، ولم تشتك للشّرطة. كيف سمحت وزيرة الصحّة بالتستّر على ملفّ التّحقيق في القضيّة. أيّ أطباء هؤلاء الّذين تُضرَب مريضة في غرفة استشفائها ولا يتدخّلون أو يستدعون حرّاس المشفى لحمايتها؟ القضيّة بمجملها مثيرة للحنق والغضب، وكلّ ما سنكتبُهُ قليل بحقّ الإنسانيّة المدعوس على رقبتها. أين لجان حقوق المرأة؟ أين المؤسّسات الدّوليّة؟ أليس من واجب السّلطة الفلسطينيّة بعد حادثة كهذه هزّت الضّمير العالمي أن يتمّ التحفّظ على المشفى وطاقمِهِ. لو نخطىء مرّة واحدة في تعنيف ضمائرنا ومعاقبتها بالحظر والنّفي والعزل ربّما تأخذ قضيّة قتل النّساء حقّها من الحضور الإنساني العالمي. ربّما نبدأ بالتّحديق في مساحات العتمة المهوِّلة في قاعنا، والهزيمة الّتي تغلق علينا مسافات الأمل. أو يجوز أن نضع أصابعنا على نحر الجرح الّذي يسيل من جسد المرأة لمجرّد أنّها امرأة ومشكوك بأمر نسويّتها وأنوثتها وكلّ مفردات الفعل الحاضر والغائب الّتي لها.

كنت قد وعدت نفسي بالكفّ عن التّشهير بحوادث النّساء، لكنّ المسلسل لا ينتهي لأكفّ أنا عن الصّراخ والحنق والبكاء. عيب يا وطن أن ترمي شرفك طعما لشلّة متواطئين ضدّ ضمير الإنسانيّة جمعااء. وهذه دعوة لجميع قادة الأحزاب، أنتم مطالبون بالسّعي للجم نهر الدّم الّذي لا يجفّ بحقّ كلّ النساء. لن تنالوا دعمنا إذا لم يتوقّف هذا السّيل من الموبقة والبذاءة والقذارة..

كاتبة واديبة فلسطينية

الفيديو

تابعونا على الفيس