الربيع العربي في موجته الثانية: لا مفر من الدمقرطة ومحاسبة المفسدين.. وإسترجاع الثروات المنهوبة

سبت, 09/28/2019 - 07:32

د. طارق ليساوي

تنوعت التحاليل الآراء والمواقف حول الواقع العربي بعد 2011، وتباينت المواقف بين مؤيد للثورات الشعبية ووصفها بالربيع العربي، وبين من إعتبرها نكوصا للخلف وخدمة لأجندات أجنبية غايتها تقسيم المنطقة، وأن حركة الشارع تسير دون بوصلة، والواقع أن كلا الموقفين يحتملان قدرا من الصواب والخطأ، خاصة مع انحراف مسار معظم ثورات الربيع، واتجاهها نحوإعادة تدوير أنظمة فاسدة مستبدة، وتبني سياسات خاطئة لا تعبر بالمطلق عن الشعارات والآمال التي رفعها المحتجين في مختلف ساحات وميادين العالم العربي، غير أن الشعوب العربية كان لها رأيا أخر، وهوما لحظناه في الموجة الثانية من “الثورات” العربية التي عمت السودان والجزائر وتونس وانتقلت شرارتها إلى مصر…

الموجة الثانية وكما توقعنا منذ فترة، لن تكون على نفس منوال الموجة الأولى، فالرأي العام العربي بلغ درجة من النضج وتعلمت الشعوب من أخطاء الماضي، فمن حسنات السنوات الماضية أنها كشفت النوايا التي كانت في الصدور وجعلت الرؤيا أكثر وضوحا، فعملية الصهر والمخاض أفرزت الصالح والطالح والشعوب أصبحت أكثر إدراكا لمن يخدم مصالحها وتطلعاتها ومن يعاديها ويقيد تطلعاتها..

فالحشود الشعبية التي خرجت في 2019 ليست هي تلك التي خرجت في 2011، حشود 2019 أكثر نضجا في تعاطيها مع المعطيات الداخلية والخارجية ، حشود 2019 أكثر يقظة وأكثر إصرارا على تحقيق مطالبها وأكثر إدراكا لما يحاك ضدها في السر والعلن، وظهر ذلك جليا من موقف الشعب السوداني الذي لم يترك الساحات والميادين حتى تأكد من تحقيق جل مطالبه، ورفض ترك السلطة للعسكر ، خشية من تكرر الدرس المصري، أيضا استمرار الشعب الجزائري في احتجاجاته المطالبة بالقطيعة مع النظام السابق وإقامة حكم مدني يعبر عن إرادة الشعب، وقد نجح إلى حد الساعة في فرض إرادته والحكم على بعض رموز النظام بالسجن 15 عاما خطوة في الطريق الصحيح ، وإن كانت في نظرنا غير كافية لأن إسترداد الثروات المنهوبة أحد أهم خطوات الإنتقال الحقيقي للسلطة وبداية جادة لعقد إجتماعي جديد، لكن مهما يكن فما حدث في الجزائر خطوة إيجابية نحوالمستقبل …

نفس المشهد الإيجابي تحقق في تونس لكن عبر صناديق الاقتراع، إذ حاول الشعب التونسي تصحيح مسار الثورة وقطع رؤوس المتلاعبين بالشعب عبر اختيار شخصية سياسية مغمورة خارج الصندوق، لكن تعبر بحق عن تطلعات غالبية الشعب التونسي، في رفض واضح لمعظم رموز المرحلة التي أعقبت ربيع 2011 ، فنتائج الإنتخابات الرئاسية عبرت عن فشل رموز وسياسات هذه الحقبة، غير أن هذه الحقبة لم تكن سلبية بالمجمل فنجاحها في ترسيخ للتداول على السلطة عبر صناديق الإقتراع ، يعد في حد ذاته إنجاز للشعب التونسي ونخبه بمختلف مشاربها وإنتماءاتها الحزبية والأيديولوجية… فما حصل في تونس خلال الأسبوع ما قبل الماضي لم نشهد له مثيلا إلا في البلدان الغربية ذات الديمقراطيات العريقة، فالشعب التونسي صاحب الحلول الخلاقة ، علم الشعوب العربية درسا جديدا في إمكانية التغيير السلمي والأمن عبر توظيف السوط الانتخابي…

والواقع أن الوصفة التونسية ينبغي التعامل معها بجدية وموضوعية، والحرص على تعميمها في باقي البلاد العربية، فالمدخل الحقيقي للتغيير هوالاحتكام لإرادة الناخب وضمان حقه الكامل في التعبير عن إرادته، فكما لعب الشعب التونسي دورا محوريا في تفجير ثورات 2011، هاهومجددا يرشد الشعوب العربية إلى ألية أمنة للتغيير، آلية تحد من فاعلية التدخل الأجنبي والصناديق السوداء في تحديد نوعية الحكام ورسم السياسات العمومية..

ومصر في وضعها الراهن أشد حاجة للمنهجية التونسية  لتجاوز محنتها، والانتقال من حكم السيسي الذي دمر مصر وشعبها ، والخروج من الحلقة المفرغة التي عاشتها مصر منذ الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي..

فالاحتجاجات التي شهدتها مصر يوم الجمعة الماضية، والتي رفعت شعار رحيل السيسي والمناهضة لحكم العسكر سوف تنجح – بنظرنا- في الإطاحة بحكم السيسي، لكن ماحدث بعد 2011 لن يتكرر مرة أخرى في مصر، فقطاع واسع من قيادات الجيش المصري وقطاعات واسعة من رجال السياسة والإعلام والفكر والثقافة في مصر فقدوا مصداقيتهم، وثبت خداعهم ومكرهم بالشعب المصري، فالأيام والأسابيع القادمة في مصر ستكون حبلى بالأحداث، وعلى درجة كبيرة من الأهمية ليس لمصر فقط بل لمجمل العالم العربي…

فانهيار حكم السيسي مطلب شعبي من المحيط إلى الخليج، فعمالة الرجل وتأمره على مصر وشعبها ، بل وإنخراطه الواضح والغير مسبوق في خدمة مصالح الكيان الصهيوني، في معارضة صريحة لمصالح مصر وحقوق الشعب الفلسطيني أصبح من المسلمات، وسكوت الشعب المصري على عمالته لا يليق بشعب مصر وتاريخه المشرف في مقاومة الغزاة والمحتلين، بل إن الإطاحة بالسيسي ستؤدي إلى الإطاحة بداعميه وفي مقدمتهم حكام السعودية والإمارات، فبنظرنا موجة الربيع العربي الثانية ستشمل أيضا بعض بلدان الخليج، نتيجة لدورها السلبي في إحباط الربيع العربي وتبنيها لأجندة دموية مناهضة لحق الشعوب في تقرير مصيرها وما صاحب ذلك من تبديد لثروات شعوبها وتكالب على حقوق الأمة ..

فالحلقة المفرغة التي عاشتها بلدان الربيع العربي طيلة السنوات الماضية، هي بالدرجة الأولى نتاج لمؤامرات خبيثة، شارك فيها سدنة الأنظمة البائدة بتمويل من بعض حكام الخليج، فبعض حكام الخليج خاضوا حروبا استباقية حماية لعروشهم وترهيبا لشعوبهم، غير أن ما أرادوه وخططوا له، لم تكن ثماره كما اشتهى هؤلاء السادة ، فالخوف من الحرية ومحاربة المد التحرري والإصلاحي يعجل بخراب “العمران” على حد تعبير “ابن خلدون”، ف”عصبية” حكام الخليج القائمة على القبيلة والمال وتوظيف الدين تتجه حتما إلى الضعف والتفكك، بل ما اتخذوه من قرارات للتدخل السافر في إعاقة إرادة شعوب المنطقة يعجل باتجاه تسارع وثيرة تفكك وانهيار أنظمة الحكم في الخليج ..

وفي هذا السياق لا ينبغي إهمال الدور البطولي والمحوري للشعب اليمني الذي جعل حلف المتآمرين ينكمش على ذاته، فغرق الإمارات والسعودية في المستنقع اليمني، كان بشير خير على شعوب المنطقة العربية من الرباط إلى المنامة، فالسيولة المالية لهذه البلدان المتآمرة تم استنزافها في تمويل العدوان على الشعب اليمني من جهة، وأيضا من خلال دفع الجزية للسيد “ترامب” ، الذي بالرغم من رعونته وعدائه للعرب والمسلمين، إلا أن أسلوبه في التعامل مع حكام الخليج وفرضه الجزية على أنظمتها مع كشفه للمستور،مثل هدية تاريخية للعالم العربي، فقد كفانا شرهم ولجم طموحهم المرضي والتخريبي…

وتركيزنا على دور بعض حكام الخليج هونتاج للدور السلبي الذي تلعبه السياسات الغير سليمة التي تم انتهاجها من قبل حكومة الإمارات والسعودية في السنوات الأخيرة، فهذه السياسات أضرت بشعوب الإقليم ، بل سيمتد أثرها السلبي إلى بلدان الخليج ذاتها، فالتحدي الآني هوإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي، وترك الشعوب تختار طريقها، والبحث عن مصالحة وتسويات سلمية توقف شلال الدم في كل بؤر الثوثر في الإقليم العربي…فمن يعتقد من الحكام انه سينتصر ضدا عن إرادة شعوب المنطقة فهوواهم تماما، جل ما يفعله هؤلاء الحكام هوتوسيع دائرة الحقد بين الشعب الواحد من جهة وبين شعوب الإقليم من جهة أخرى..

 فعلى الرغم من حالة الانهيار في جسد الأمة، إلا أن إمكانية العلاج لا تزال قائمة، فالبحث عن الحلول الوسط والانتقال التدريجي، والابتعاد عن التطرف لدى كلا الجانبين بإمكانه أن يساعد على إعادة المناعة لجسد الأمة… وهذا الأمر ليس بالسهل لكن ليس بالمستحيل، فهذه الأوطان بها رجال ونساء في كلا الجانبين -المعارضة والحكم-، على درجة من الكفاءة وحب هذه الأوطان، ولهم من العقل والحكمة ما يكفي لصياغة عقد اجتماعي جديد يرسخ للسلم الاجتماعي والتقدم الحضاري، لكن نتمنى صادقين أن يتم تغليب صوت الإنسان، بدل هذا الانصياع المحموم لصوت التسلط والشهوانية الجارفة.. وأستطيع الجزم بأن السنوات الماضية بمأسيها وحمولتها السلبية في الأغلب، كانت كافية لخلق وعي جمعي بضرورة تجنب أخطاء المرحلة السابقة فعملية إستئصال الحكام المستبدين لا تكفي في حد ذاتها، ما لم تكن مصحوبة بخطوات لاحقة وتضحيات متتالية تتوخى بدرجة أولى بناء المستقبل على أسس سليمة دون حاجة إلى الغرق في مستنقع الماضي ومخلفاته، نعم ينبغي محاسبة المفسدين وإسترداد الحقوق إلى أهلها عبر الأليات القضائية والزجرية المعترف بها في أغلب التجارب الدولية التي نجحت في تحقيق إنتقال ديموقراطي حقيقي، مع الإبتعاد قدر الإمكان عن خطاب الثأر والإنتقام…وبنظرنا، ما حصل في السودان والجزائر وتونس خلال الفترة الأخيرة خطوة إيجابية نحوالطريق الصحيح..لكن ما سيحدث في مصر سيكون من دون شك” رمانة الميزان” في ترجيح كفة إرادة الشعوب وتطلعاتها المشروعة وكسر حلف الخونة والمتأمرين … “هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

* أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية..