دكتور محيي الدين عميمور
عُرف الإعلاميون في قطر عربي شقيق بالخبرة الهائلة في تطويع ما يقدمونه من معلومات وآراء وتحليلات عن الأحداث لتستجيب لأهداف يرونها، أو يراها من يٌكلفهم بالأمر، بغض النظر عن صِدقية ما يروُونه ومصداقيته.
ولأن مصداقية الأخبار هي، مثل العذرية، كلّ متكامل لا نسبية فيه، فإن الخطورة الموضوعية تكمن في رفض المشاهد تصديق ما هو واقع وحقيقي لأن الإعلام حشر في المادة التي يقدمها ما هو زائف أو مختلق أو وهمي.
ولن أذكر بإنجازات رائعة عرفها الوطن العربي لأن أجهزة الإعلام التي تناولتها كان لها تاريخ غير مشرف في الاختلاقات والأكاذيب، ولن أذكّر بأسماء لإعلاميين اعتبروا تلاميذ بلداء لجوزيف غوبلز الشهير.
وموضوع هذا الحديث هو تناول إعلامي عربي معارض لنظام الحكم في بلاده لما تعرفه الجزائر من أحداث، ولن أذكر هنا اسم الإعلامي ولا اسم البلد، فيكفي “رأي اليوم” ما تتعرض له من مشاكل لمجرد أنها تحترم الرأي الآخر بما يزعج دعاة الديموقراطية المزيفين، الذين يتعاملون مع الإعلام بأكثر من مكيال ويستعرضون الوقائع بأسلوب الكذب بالحذف.
وخلفية الحديث ردود فعل سمعتها بالأمس على لسان بعض المواطنين عندنا في لقاء عابر، كان مضمونها تبرئة نظام الحكم في البلد المُشار له من الاتهامات التي يوجهها الصحفي له يوميا على قناة تبث من خارج البلد بالطبع، ومبرر التبرئة الساذجة التي رددها الرفقاء هي الاتهامات الأكثر سذاجة التي يوجهها الصحفي في نفس البرنامج لنظام الحكم في الجزائر، ومضمونها التنديد بحكم العسكر وبجرائم العسكر.
وكان رأيي، الذي أغضب بعض الرفاق، أن علينا تفهم الوضعية التي يعيشها الصحفي المشار له نتيجة لمعارضته ما تعانيه بلاده، وهو حقيقي وثابت، فهو يعيش في المنفى، والمنفى هو المنفى، وإخوته وأفراد من أسرته يعانون في سجون النظام من عملية انتقام بشعة هي جزء مما يرتكبه النظام في حق شعبه، وهو لا يملك من المعلومات عن الجزائر إلا ما يُسرّب له بطريقة أو بأخرى، في الوقت الذي تعجز فيه الجزائر بإعلامييها وديبلوماسييها ومثقفيها عن إعطاء وجهة نظرها عما يحدث في بلاد سيدي عبد الرحمن، وهكذا يظل المشاهد العربي فريسة رأي واحد يُذكر بكلمات أحمد شوقي الرائعة عن ببغاء عقله في أذنيه.
ولقد تناولتُ في أكثر من حديث موقف المؤسسة العسكرية الجزائرية من أحداث الجزائر، وحاولت أن أشرح، بتفصيل لعله بدا مملا، أن الحكم على ما تعرفه بلادنا على ضوء ممارسات العسكر في بعض البلدان هو خطأ لا يبرره حسن النية أو التعاطف الساذج.
ولقد تابعت لقطات عن تظاهرات جزائرية قدمها الصحفي المشار له قائلا بأنها إدانة لحكم العسكر يصرخ بها شباب الجزائر، وهنا أجد من حقي أن أطرح عدة أسئلة لعل الإجابة عليها تنير الطريق أمام إعلامي يسيئ لقضية بلاده بحرمانها من متعاطفين أصبحوا يشكّون ويشككون في كل ما يرويه عن جرائم الثورة المضادة وعن المآسي التي تعرفها السجون والمعتقلات.
هناك تظاهرات في وسط العاصمة الجزائرية لم تتضامن معها جماهير معظم الولايات الـ48، وهذا التظاهرات تسير بكل اطمئنان، ولم يتعرض أي من عناصرها لأي عنف، مادي أو لفظي، من عناصر الأمن.
أليس هذا في حدّ ذاته دليل على أن نظام الحكم في الجزائر، وبغض النظر عن أخطاء كثيرة يرتكبها، هو أبعد ما يكون عن نظم الحكم العسكرية، أو نصف العسكرية (والسودان الشقيق كمثال)؟.
وكان من ضروريات التعبير الحرّ والموضوعية الإعلامية أن يطرح الصحفي على نفسه وهو يقدم تلك اللقطات السؤال البسيط: لماذا ترتفع الهتافات باللغة الفرنسية في بلد أغلبيته الساحقة تتحدث العربية، ولماذا لا يكون هذا عنصر تشكيك في حقيقة ما يحدث، لأنه يكشف أمرين، أولهما الانتماء الحزبي الإيديولوجي أو الفكري لمن ينظمون تلك التظاهرات في وسط العاصمة الجزائرية، وواضح أنه انتماء لا يحظى بمباركة والتزام الشعب بأكمله الذي لم يتضامن مع المتظاهرين، لأنه رأى في التظاهرات تعبيرا عن رأي أقلية رافضة للانتخابات الرئاسية، أدركت أنها لن تنجح في انتزاع السيطرة المطلقة على مقاليد الحكم في البلاد كما حدث في التسعينيات إثر الانقلاب الذي أطاح بنتائج الانتخابات التشريعية، وهي أقلية تعلن، بكل فجور، أنها ترفض ديمواقراطية الصندوق الانتخابي لأنها تعطي للأغلبية فرصة سحق الأقلية، وهو مفهوم مبتدع للديموقراطية يتناقض مع أبجدياتها.
والأمر الثاني الذي يمكن استنتاجه من الهتافات بالفرنسية هو أنه موجه أساسا لاستجداء ضغوط أوربية على نظام الحكم الذي أعلن بوضوح التزاماته العربية الإسلامية، ومن هنا فإن ما تشهده العاصمة الجزائرية اليوم ليس انتفاضة شعب وإنما ردود فعل من مجموعات فرانكولائكية، نحترم حقها في أن تعبر عن رأيها بقدر ما نرفض أن تنتزع حقنا في إدانة ما نراه جديرا بالإدانة.
ولا بد من الاعتراف بأنه كان على الصحفي المتحمس ملاحظة أن الاتجاهات التي تصرخ اليوم مطالبة بدولة مدنية لا عسكرية هي نفس الاتجاهات التي كانت واجهة المرحلة التي سيطرت فيها المؤسسة العسكرية على البلاد، بعد أن اختطفتها أجهزة معينة تدين بتوجهات معينة وتتحالف مع إيديولوجيات معينة، قادت الجزائر إلى مرحلة العشرية الدموية بكل مآسيها، وهي نفس الاتجاهات التي طالبت المؤسسة العسكرية الحالية، بعد أن استرجع الشعب قيادة جيشه الوطني، طالبتها بإنهاء حكم الرئيس عبد العزيز بو تفليقة وتطبيق المادة 102 من الدستور التي تقيم مرحلة الشغور الرئاسي، وهو ما دعمته المؤسسة برعاية التطبيق الحرفي للدستور وبدون التدخل المباشر في تسيير الدولة، لكنها أصبحت الخصم الرئيسي لتلك الاتجاهات عندما رفضت القيام بانقلاب عسكري على الشرعية وإقامة نظام تسيره هيئة انتقالية، لمجرد أنها لم تنسَ درس التسعينيات.
والغريب أن من يتهمون النظام الجزائري بالعسكرتارية يفرّون من التساؤل عن عدد العسكريين في الحكومة الجزائرية، أو بين ولاة (محافظي) الجمهورية، أو الأمناء العامين للوزارات (الوكلاء) أو سفراء الجمهورية وقناصلها، أو رؤساء البلديات الـ1541 (على ما أتذكر) أو مدراء أي مؤسسة أو شركة أو مصلحة حكومية.
وللعلم، العسكري الوحيد بين كل هؤلاء هو الفريق قايد صالح، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
وهل هناك دليل واحد على تدخل المؤسسة العسكرية في أي شأن من شؤون الدولة، اللهم إلا الإصرار على حرية القضاء ورفض أي محاولة للتدخل في قراراته وأحكامه.؟
وسنلاحظ هنا فيما يتعلق بمن وضعوا تحت الرقابة القضائية، وهو عدد محدود جدا، أن البعض، ولأسباب لا علاقة لها بتطبيق العدالة، يطالبون بإطلاق سراح من وُجّهت لهم اتهامات معلنة، أي بالتناقض مع القانون، بدلا من المطالبة بمحاكمة عادلة سريعة وعلنية، وبتعويض المعتقلين الذين تثبت براءتهم، وعقاب من تسبب في اتهام أبرياء.
وهكذا يرى كثيرون أن القضية لم تكن، كما سبق أن قلت، مشكلة تنحية باءات أو إبعاد مؤسسة الجيش أو حتى إيجاد لجنة مستقلة ونزيهة للانتخابات، بل هي أن الأقلية لا تريد أن تذهب إلى انتخابات لن تفوز فيها، وهذه الأقلية ستفعل كل شيء وتذهب كل مذهب لإفشال الانتخابات التي تجعل الحكم ينتقل من الأقلية التي حكمت البلاد في ظروف ملتبسة، إلى الأغلبية الصامتة التي عاشت سنوات في الظل وتحت الهيمنة والاستفزاز، وصبرت حتى ملّ الصبْر منها.
ولقد طرحتُ هذه القضية لسببين، أولهما وضع القارئ في صورة الأحداث الجزائرية، فمن حق المواطن العربي الحصول على المعلومات الصادقة والآراء السليمة بالنسبة لكل ما يتعلق بالأحداث العربية، وأن تعطى له الفرصة ليُحكّم عقله فيما يسمعه من أكثر من مصدر، لأن الحقيقة غير الكاملة هي أسوأ أنواع الكذب.
والسبب الثاني خشيتي من أن يفقد شعب كريم مضطهد تعاطف شعبنا نتيجة لشكوك فيما يقدم له من وجبات إخبارية، تحتوى على معلومات وآراء يعرف المواطن عندنا أنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع الذي يعيشه كل لحظة.
وسأتهم بأنني أنافق “العسْكر”، وبأنني بعثي أصولي، وبأنني، وأنا على بعد خطوات من القبر، أبحث عن منصب، ولكنني لن أتراجع وسأظل أقول بأعلى صوت إن الجيش الشعبي الوطني هو العمود الفقري الصلب للدولة الجزائرية المستقلة، وسأواصل ذلك ما دامت العقيدة السياسية للمؤسسة العسكرية الجزائرية هي تلك التي تنبثق من بيان ثورة نوفمبر 1954 وتلتزم بثلاثية عبد الحميد بن باديس، وما دام علمها هو علم أول نوفمبر، وبرنامجها هو برنامج أول نوفمبر، وطريقها هو طريق أول نوفمبر.
وإنها لا تعمى الأبصار وإنما تعمي القلوب التي في الصدور.
آخر الكلام
* – تعليقات إيجابية كثيرة وصلتني على الحديث الماضي الذي تناولت فيه قضايا سينيمائية، وقلت للرفقاء إن ما كان يهمني هو أن أؤكد أن جزائر الستينيات والسبعينيات لم تعرف الفراغ بأي حال من الأحوال، وهو ردّ غير مباشر على الذين يدينون كل مرحلة استرجاع الاستقلال.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق