الجزائر: تاريخ كاد يهمله التأريخ

سبت, 08/24/2019 - 20:46

دكتور محيي الدين عميمور
أسمح لنفسي أحيانا بالتطرق إلى مواضيع أراها لصيقة الصلة بحياتنا اليومية، ومن بينها هذا الفيلم الذي عُرض مؤخرا على القناة الفرنسية الأولىريطاني من إنتاج “بي بي سي” (BBC) ويحمل اسم “اعترافات خطرة” ( Confessions dangereuses) وقام بالدور الأول فيه “دانييل كريغ” (Daniel Craig) الذي كان آخر من قاموا بدور “جيمس بوند 007”.
ويروي الفيلم قصة أستاذ بريطاني، “فلوك كيلسو”، وقف يحاضر في موسكو عن الفظائع التي ارتكبها “جوزيف ستالين” خلال قيادته للاتحاد السوفيتي، ويقاطعه خلال المحاضرة جمهور يحن للفترة الستالينية، وعند خروجه يستوقفه “بابو” (Papu) وهو كهل روسي، يتهمه بأنه لا يعرف الحقائق الروسية، ثم يذهب لملاقاته في الفندق متسترا ليروي له بأنه عاش شابا لحظات احتضار ستالين، وكان يومها جنديا من الحرس، ويفرض عليه مدير المخابرات الروسية الشهير “لافرنتي بريا” البحث في ملابس الدكتاتور المحتضر عن مفتاح الخزانة السرية، وينتزع منها مذكرة يأمر الجندي بدفنها في حديقة منزله، ويُنسى الأمر بعد إعدام بريا.
ويحاول الأستاذ البريطاني العثور على المذكرة بالتعاون مع ابنة الجندي القديم، “زنايدا بابافا” (Zinaida Rapava ) التي قدمها الفيلم كعاهرة، ككثيرات غيرها سقطن في براثن أقدم المهن في التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (وهي فرصة لتلويث الحاضر الروسي لمصلحة من يهمهم ذلك)
وبعد عمليات كرّ وفرّ مثيرة يعثر الأستاذ على المذكرة ليكتشف أنها كانت لسكرتيرة روسية تعمل في “الكرملين”، اغتصبها ستالين وحملت منه فطردها إلى بلدتها الأصلية، حيث أنجبت طفلا انتهى به الأمر، بعد وفاة والدته إلى العيش بعيدا عن جدّه وجدته.
والغريب هنا أن سفّاحا قتل الملايين مثل ستالين، وكان لا ينام يوميا، طبقا لمحاضرة الأستاذ البريطاني، قبل أن يتأكد من تصفية العشرات، يترك فتاة حملت منه سفاحا لتعود إلى أسرتها وتفضح الزعيم الذي يُقدسه السوفييت، لكن مخرج الفيلم لم يتوقف عند هذه النقطة لأنه كان يسعى لتحقيق هدفه الرئيسي وهو شيطنة بقايا الحزب الشيوعي السوفيتي.
وهكذا نكتشف معه أن اللقيط أصبح رجلا تستعمله بقايا الحزب الشيوعي لإعادة سيطرة الحزب على روسيا، وينتهي الأمر بقيام زنايدا بابافا باغتياله، وهو يستعد للسيطرة على الاتحاد الروسي واستعادة الحكم السوفيتي الشمولي.
والقول بأن ستالين لم يكن دكتاتورا لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا هو ادعاء لا يقنع أحدا، وأقل ما يمكن أن يقال أنه “آلزهايمر” سياسي، لكن تناسي النقلة النوعية التي عرفها العالم بفضل ثورة أكتوبر 1917 هو استمرار للعبث السينيمائي بعقول الناس عبر المعمورة.
ولقد عشنا إثر انهيار الكتلة الاشتراكية تداعيات واحدية القطبية.
ويتظاهر مخرج الفيلم بالإنصاف والموضوعية فيقول على لسان “بابو” وهو يدافع عن تلك المرحلة: إن روسيا كانت، تحت حكم القيصر، خرابا ودمارا أنقذها حكم البولشيفيك، وإن ستالين هو الذي تمكن من إنقاذ البلاد من أدولف هتلر، وبالطبع فإن نسبة القول لسكير يفقده الكثير من قيمته، إن لم يكن إثباتا ضمنيا لعكس ما يدعيه.
والفيلم ذكرني بسلسلة الأفلام التي أنتجها الغرب منذ انتهاء الحرب الثانية وكيف ركزت كلها على شيطنة هتلر ونظامه، والتي يبدو لي أنها بدأت تعاني مؤخرا من ردة فعل لدي كثيرين، استثارتهم المبالغة في محاولة تشويه الرجل الذي استطاع أن ينطلق من مجرد عريف نمساوي إلى قمة دولة جعلها أقوى دول العالم، واستنفر فيها عقول العلماء لإنتاج ما لم يكن يتصوره أحد بعد اتفاقيات فرساي المُذلة، التي كانت بذرة الحرب العالمية الثانية.
وكانت معظم الأفلام الغربية والشرقية التي قدّمت عن الجيش الألماني تصوره كمجموعة من الوحوش الأغبياء، ومن أشهرها فيلم “الهروب العظيم” (LA GRANDE VADROUILLE) لبورفيل ودو فينس، بالإضافة إلى مئات الأفلام الأمريكية بل والروسية.
وربما كان الفيلم الوحيد الذي قال كلمة خير في ضابط ألماني هو فيلم “ثعلب الصحراء” الذي لعب فيه جيمس ماسون دور المارشال ‘إيروين روميل”، وكانت الخلفية الحقيقة هي الإساءة لهتلر، الذي تخلص بغبائه وحماقته من أحسن ضباطه وأمره بالانتحار.
لماذا أروي كل هذا والبعض ينتظر مني مواصلة الحديث عن حراك الجزائر، في حين أرى، كما يرى كثيرون انفضوا عنه، أن مهمته قد انتهت، ولم يبق منها إلا رماد يخفي جمرات يحاول البعض عبثا إلقاء بعض الأغصان عليها، علها تشعل النار من جديد، لكن الأغصان المبللة لا تستجيب.
ولقد قلت في بداية أحاديثي أنني أحاول القيام بوقفة نقد ذاتي لكل المسيرة التي عاشتها أوطاننا، والفيلم الذي تناولته في السطور الماضية هو مدخلي لذلك.
فالذي حدث أن الخط الذي سارت عليه الجزائر المستقلة في التعامل مع عدو الأمس كان خطأ من الصعب أن أحدد اليوم ما إذا كان ذلك عن عمد وسابق إصرار أم عن حسن نية، تناست أن الطريق إلى جهنم مرصوف بالنوايا الطيبة.
كان الاتجاه الرئيسي هو بناء مستقبل الجزائر على ضوء شعارات المصالحة التاريخية ومنطق “عفا الله عمّا سلف”، والذي استلهم، في التعامل مع جزائريين تناقضوا مع الثورة الجزائرية أو تهاونوا في دعمها، منطق “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وكان هذا الاتجاه هو عكس الأسلوب الذي تفوقت به إسرائيل وفرضت إرادتها على العالم أجمع، أي التركيز على جرائم العدوّ وعدم السماح بذكر أي فضيلة يمكن أن تمحو بعض ذنوبه، وهذا ما يُفسّر التركيز على الألمان الذين اضطهدوا اليهود وعدم الإساءة الدائمة لليابان، وجرائم هذه، وخصوصا في الصين، معروفة، لكن بلاد الشمس المشرقة لم تستهدف حملة النجمة السداسية.
وكان وراء الاتجاه الجزائري في السيطرة على أحقاد الماضي عدة دوافع، أولها وأهمها أن فرنسيين كثيرين، وخصوصا من رجالات اليسار الفرنسي، وقفوا إلى جانب نضال الشعب الجزائري في سبيل استرجاع حريته وسيادته، ومنهم من مات في سبيل ذلك، و”موريس أودان” واحد من الأسماء التي خلدتها جزائر الاستقلال كتعبير عن العرفان.
الدافع الثاني هو الاستعانة بإطارات جزائرية ارتبطت يوما بالمستعمر السابق، وخصوصا من العسكريين، وهو ما كان واحدا من أسباب التناقض بين الرئيس أحمد بن بله والعقيد هواري بو مدين، والأول كان على حق إستراتيجيا وعلى خطأ تاكتيكيا، على عكس الثاني الذي أحسن تاكتيكيا، وكان مبرره أن بناء الوطن يحتاج كل من لم تثبت عليه خيانة أو غدر أو استلاب، وكان خطؤه الرئيس أنه نسي الموت
وربما كان الدافع الثالث أن تجنيد الشعب لبناء الوطن باعتماد الأحقاد ينسى أن “النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله”، وأن المستقبل يتطلب أن نقلب صفحة الماضي ولكن بدون أن نمزقها، والنقطة الأخيرة غابت عن كثيرين وغيّبها البعض.
وسنجد هنا، والحديث أساسا كان عن السينيما، أن جل الإفلام الجزائرية الطويلة وضعت خطا فاصلا بين الفرنسي المستعمر والفرنسي المتناقض مع الاستعمار، وتجلى هذا في واحد من أهم الأفلام وهو “الأفيون والعصا”، والذي رأينا فيه مواقف إنسانية لضابط فرنسي في تعامله مع مجاهد معتقل.
لكن هذه النزعة المتسامحة تجاوزت الواقع الحقيقي في فيلم “سنوات الجمر” الذي سمعت الرئيس بو مدين يقول لمخرجه بنرفزة واضحة لم يُحاول إخفاءها: أنت برّأتَ الاستعمار وركزتَ على اتهام بعض أتباعه من الجزائريين.
وكان الأمر الذي لم يفهمه في حينه كثيرون هو أن هذا الفيلم فاز بالسعفة الذهبية في “كان”، لأنه كان منسجما مع إرادة من يقفون وراء الجوائز الفرنسية للإنتاج الجزائري، وإن كان المثقف الجزائري لم يتردد يومها في أن يقول كلمته ولو رأى كثيرون أنها كانت ضد التيار.
وأتذكر أنني كتبت في نوفمبر 1974 (أي منذ نحو 45 سنة) سطورا تحت عنوان “ساعات الجليد (وقاعة العرض كانت باردة).. وسنوات الجمر” تقول :
جمح قلمي، وعجزت عن السيطرة عليه … وجدتني أتساءل … وحدي وحدي .. ما الذي علق بذاكرتي من الفيلم الذي تجاوزت مدة عرضه ثلاثة ساعات ونصف، والذي كادت ميزانيته تساوي ميزانية بناء ثلاثة قرى نموذجية، أو 300 سكن رخيص الإيجار وأكثر من 15 فيلم من نوع ” العصفور ” (فيلم أنتجته الجزائر عن 1967 وأخرجه يوسف شاهين).
فيلم ضخم كسنوات الجمر لا يجب أن يمر هكذا بهدوء مثير للشكوك، وكان لابد أن تتعرض له أقلام ناقدينا بكل موضوعية ونزاهة، لأن الموضوع أكبر من مجرد فيلم بل هو ” إستراتيجية السينما الجزائرية ” وخطها السياسي، والأسلوب الذي يجب أن يسير عليه الإنتاج السينمائي.
والفيلم وقع في (..) خطأ سياسي ليس له ما يبرره.
فليتقمص كل من شاهد الفيلم فكر شاب لم يعرف الثورة ولم يتعرف عليها، وليسأل نفسه آنذاك … ومن واقع مشاهدته للقصة السينمائية.
من الذي كان يسلط القمع والإرهاب المباشر على الشعب الجزائري وكيف كان رد الفعل الشعبي ؟
وما هو الدور الحقيقي للاستعمار الفرنسي ؟
والإجابة تقفز وحدها على السطور.
الفيلم يقول لنا بالصوت وبالصورة، أكثر أدوات الإقناع تأثيرا، بأن ” الباش أغوات ” و ” القياد ” (الممثلون المحليون للسلطة الاستعمارية) هم الذين كانوا، وحدهم، سوط الإرهاب والطغيان، يلهب ظهور أبناء هذا الشعب.
” والباش أغوات والقياد ” جزائريون، وواحد زائد واحد يساوي اثنين … ومعنى هذا أن الجزائري كان يضطهد الجزائري ويقتله ويعذبه، بل رأينا أن قتل مناضل تم بدون أن نرى وجه القاتل، ولكننا كنا نرى زبانية الباش أغا، وحتى تعذيب المناضل قبل قتله لم نعرف من الذي قام به فعليا داخل محافظة الشرطة.
أين كان الشعب الجزائري ؟ … كان (حسب الفيلم) يمد عنقه مستسلما للسكين … ويقيم ” الوعدات ” (ولائم الزوايا) استجلابا للمطر، وتتصارع فئاته دمويا على حصص المياه، وترفع نساؤه الأعلام الفرنسية ترقص بها في استقبال مرشح الحكومة في الانتخابات.
والجذوات الدينية، التي حافظت في معظمها على روح العروبة والإسلام، تبدو لنا عبر الفيلم كمخالب للخيانة، تخدر الشعب وتلهيه، وتبلغ سلطات القمع عن كل من يرفع رأسه في المسجد ليتساءل … ماذا يراد بنا ؟ (من لقطات الفيلم إمام استاء من موقف لمصلٍ علّق بتعبير وطني لم يعجبه).
أما المستعمر الفرنسي فإنه يبدو لنا كشرطة عادية تبالغ، إلى حد ما، في قسوتها !!!..
هل هذا هو الواقع الجزائري الذي نريد لأبنائنا أن يعرفونه ؟.. هل هذا هو التاريخ الجزائري الذي عانى من التشويه الاستعماري يعاني اليوم من ” ويل للمصلين ” !!!
هل هذه هي الثورة كما يجب أن يعرفها جيلنا الصاعد ؟.. بالطبع لا ..
إن الفيلم هنا هو استمرار للخط الذي سار فيه من قبل فيلم ” ديسمبر “.. وهو استغلال بذئ لأفكار ” مالك بن نبي ” عن القابلية للاستعمار، ولو شاهدتُ فيلما كهذا في فرنسا، بدون مقدمة توضح هويته، لاستنتجت بأنه أذكى ما يمكن أن تقدمه السلطات الفرنسية من عرض لوجهة نظر، تريد منا أن نؤمن بها، فيما يختص بثورة الجزائر.
فيلم ديسمبر (وهو لنفس المخرج لاخضر حامينه) يمحو عن الجهاز العسكري الفرنسي جريمة التعذيب، وهذا الفيلم يزيد في ترسيخ الفكرة …
وسيزيد فيلم ثالث ورابع … وسيأتي يوم يكذبنا أبناؤنا إذا حدثناهم عن القمع الاستعماري في الجزائري …
وأتساءل في النهاية ..
من المسؤول . ؟ المسؤول الحقيقي.
من المستفيد. ؟ المستفيد الحقيقي.
ومن المخدوع. ؟ المخدوع الحقيقي.
كتب هذا في السبعينيات، وواقع الأمر أن القضية كان يجب أن تكون أكثر وضوحا قبل ذلك، وفي الستينيات على وجه الخصوص، ولن أخجل من القول إنني كنت كتبت محذرا مما يحدث في مجلة الجيش (مايو 1967) في استعراض لفيلم “الليل يخاف من الشمس” وتحت عنوان صارخ يقول “الليل يطارد الشمس”.
“سي جعفر” يمثل أحد قمم البورجوازية الجزائرية التي يحميها سحاب الاستعمار من ضربات الشمس، استمد نفوذه من بلاط الحاكم العام فكان حربا على مواطنيه جلادا لهم، وبينما يقاسي شعبنا الأمرين خلال سنوات الثورة يعيش سي جعفر في قصره الفخم خاليَ البال إلا من استزادة النفوذ وامتصاص الدماء.
ويأتي الاستقلال وتصفعنا الصورة المذهلة، إن سي جعفر ما زال حيث كان، ما زال يمسك بالمقدرات.. فقط … استبدل سيدا بسيد.
وهكذا ينزوي المناضل الصادق ويبقى جعفر وعصابته في الصدارة رافعين لواء الحرية والعدالة (وأذكر بما قاله يوما “ماو تسي تونغ” للمجاهدة “جميلة بو حيرد”)
تلك هي الخلاصة المركزة للفيلم الرائع الذي قدمه المركز الوطني الجزائري للسينما بالاشتراك مع الإذاعة الوطنية وأخرجه مصطفى بديع.
والفيلم، في مجموعه.. رائع، خاصة إذا قارنا ظروف عرضه والدعاية المحدودة التي صاحبته بظروف عرض فيلم ريح الأوراس ( الذي عرض في أول نوفمبر وفي ظروف تنضح بغرور وانتهازية المخرج والمصور وكاتب السيناريو.. الخ.. الخ..أخينا لاخضر حامينا، هو نفسه.)
ولعل السر في البرود الذي قوبل به الفيلم والدعاية المركزة ضده هو أنه يعرض في جُرأة وشجاعة وموضوعية المشكلة التي تعانيها الجزائر اليوم والتي تسببت في النزيف القومي الذي نعانيه، مشكلة الثوريين المزيفين، مشكلة الخونة الذين لبسوا مسوح المناضلين وتسللوا إلى أجهزة الحكم وشرايين الاقتصاد، تاركين الواجهات السياسية للمناضلين.. يستمدون منهم الحماية والتأييد.
ذلك ما كتبته في الستينيات، ولقد استعرضت هذا كله من باب وقفة النقد الذاتي التي طالبت بها منذ بداية هذه الأحاديث، ولكي يفهم الأشقاء خلفيات ما يحدث في جزائر اليوم، كجزء من تداعيات ما عشناه بالأمس.
ولعل في هذا دفاع ضمني عن المثقف الجزائري الذي أثبت دائما وعيه وشجاعته، ولم ينتظر مرور السنوات ليمارس الحكمة بأثر رجعي.
ولي عودة إن شاء الله.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق

الفيديو

تابعونا على الفيس