في يوم الجمعة رفض البنتاغون، “حتى إشعار آخر” ودون تفسير، التوجيه الذي خطط لإعطائه للمراسلين عن هبوط الإرسالية الأولى لصواريخ “إس 400” الروسية في تركيا. في مركز هذا الإعلان كان يتوقع طرح أسئلة حول رد أمريكا المتوقع – خاصة حول العقوبات التي تنوي الإدارة الأمريكية فرضها على تركيا. ولكن حتى الآن لا يوجد للبيت الأبيض أي موقف حول ذلك. وبالأحرى فيما يتعلق بالسياسة التي عليه اتباعها في علاقاته مع الدولة التي تستخف بطلبات ترامب.
البنتاغون وقف على رأس المعارضين لصفقة الصواريخ، في الوقت الذي عرض فيه التهديدات بأن الصفقة يمكن أن تضع أمام الولايات المتحدة وشركائها في الناتو، ترامب أيد بشكل كامل وزارة الدفاع لديه، بل وخرج بنفسه بعدة تغريدات ضد شراء الصواريخ. مع ذلك، واصل حتى اللحظة الأخيرة إجراء مفاوضات مكثفة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول احتمالية إلغاء الصفقة الروسية التي تبلغ 2.5 مليار دولار. الاقتراحات الأمريكية التي تشمل الاستعداد لبيع صواريخ بطاريات باتريوت بدل الصواريخ الروسية، وتعاون استخباري وثيق وحتى عروض مالية مغرية، تمت مواجهتها بسور معارضة تركي.
بعد ذلك، كما هو متوقع، غير ترامب موقفه. في اللقاء مع أردوغان الشهر الماضي في مؤتمر أوساكا في اليابان، تطرق للرئيس التركي وكأن سلفه، باراك أوباما، خانه عندما رفض بيعه صواريخ باتريوت، بل أظهر تفهمه لصفقة الشراء وكأنها نبعت من عدم وجود البديل. فهم أردوغان رسالة ترامب كمباركة من واشنطن، وحتى كتعهد للامتناع عن فرض العقوبات. معضلة الولايات المتحدة في هذا الأمر مركبة: العقوبات على تركيا ستعتبرها كدولة معادية حسب قانون العقوبات الذي تم سنه قبل سنتين في الكونغرس. ومن شأنها أن تختفي تماماً من دائرة الدول المؤيدة للغرب (وأمريكا)، وتذهب إلى دائرة النفوذ الروسي.
ولكن عدم فرض عقوبات كما يقتضي القانون أو استغلال ثغرة في القانون تمكن الرئيس من الامتناع عن فرض العقوبات بسبب المصالح الأمنية، ستجعل الإدارة الأمريكية تظهر كوسيلة فارغة أمام تركيا وإيران ودول عربية أخرى. إلى جانب تعريض جهاز استخبارات الناتو للخطر والمس المحتمل بالتعاون العسكري له مع تركيا، لأن شبكة الصواريخ الجديدة يجب أن تتغذى بالأرقام السرية لتشخيص طائرات الغرب، وبهذا هي تخدم روسيا، أما تركيا فتعطي إشارات لكل دولة في العالم بأن الولايات المتحدة ليست النمر الذي يجب الخوف منه.
موقف تركيا يقتضي من دول أوروبا الأعضاء في الناتو أن تفحص مجدداً علاقاتها مع تركيا. وذلك لأن الضرر الأمني في الناتو يمس مباشرة بنظام دفاعها ومبدأ التعاون بين دول الناتو. هذه القاعدة الاستراتيجية تلزمها بالانضمام إلى موقف ترامب وتفرض على تركيا عقوبات إذا قررت واشنطن القيام بذلك. ولكن باستثناء تصريحات حادة لرئيس الناتو، فإن أوروبا تصمت وتنتظر تصرف ترامب.
حتى لو فرضت عقوبات أمريكية، فليس هناك أي تأكيد على أن أوروبا ستنضم إليها؛ لأن شبكة المصالح الأوروبية مع تركيا مكونة من عدة طبقات وتشمل علاقات تجارية متشعبة وواسعة، ومرور النفط والغاز عبر تركيا إلى أوروبا، وصد موجات اللاجئين من تركيا. من ناحية أوروبا، الأمر يتعلق بمصالح وجودية لا تقل عن التعاون العسكري في إطار الناتو. في الوقت نفسه، فإن رداً أمريكياً مرناً سيعطي لدول الاتحاد الأوروبي تبريراً آخر للامتناع عن فرض عقوبات على إيران – وبهذا سيتسع الشرخ بينها وبين واشنطن، فإذا كانت الولايات المتحدة لا تتعامل بجدية مع الضرر الذي يمكن لتركيا أن تسببه لقدرات الناتو، فلماذا على أوروبا المس بالاتفاق النووي الذي تعتبره ضمانة لإبعاد التهديد النووي الإقليمي والدولي؟ صحيح أن هناك فرقاً جوهرياً بين العقوبات على إيران والعقوبات على تركيا، بالأساس بسبب الإمكانية الكامنة في تهديد كل واحدة منهما. ولكن العقوبات على إيران كانت مركزاً للصراع من أجل الهيمنة، ومنافسة لي أذرع بين أمريكا وأوروبا، فإن الحالة التركية يمكن أن تستخدمها أوروبا كذخر ضد سياسة الولايات المتحدة.
من شأن الرد الأمريكي أن تكون له تداعيات على التعاون العسكري بين دول عربية مثل السعودية ومصر، وروسيا. الدولتان وقعتا على صفقات ضخمة مع روسيا تشمل بناء مفاعلات نووية لإنتاج الكهرباء في مصر وطائرات قتالية متطورة لجيشها، واستعداد من السعودية لشراء صواريخ “اس 400” وتطوير صناعة عسكرية متقدمة، بما في ذلك صواريخ بالستية تساعد الصين في بنائها (بعد ذلك روسيا يمكن أن تنضم). إذا كانت واشنطن تنوي تقييد حرية عمل الرئيس إزاء إيران، وحتى إنها بادرت إلى سن قانون يمنع بيع السلاح للسعودية ودولة الإمارات، الدول العربية ودول أخرى في آسيا يمكنها الاستنتاج أنه من الأفضل لها تقليص اعتمادها على السلاح الأمريكي وتنويع المزودين بدون تعريض نفسها لخطر العقاب.
هبوط منظومة الصواريخ في تركيا معناه أن الصفقة لا رجعة عنها. السؤال بناء على ذلك هو ماذا ستحقق العقوبات على تركيا في الوقت الذي ستكون فيه هذه الصواريخ في الأسابيع القادمة قيد العمل، واحتمالية إعادتها إلى روسيا أو تخزينها أمر غير واقعي. صحيح أن تركيا خضعت في السابق لعقوبات روسية فرضت عليها في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية على أراضيها في 2015، ومرة أخرى خضعت لعقوبات أمريكية فرضت عليها بعد رفضها إطلاق سراح القس الأمريكي اندرو برنسون من السجن. ولكن في الحالين كان يجب على تركيا تلبية شروط سهلة جداً – الاعتذار لروسيا وإطلاق سراح القس الأمريكي. أما هذه المرة فالحديث يدور عن صفقة تبلغ المليارات، وتحديد الاستراتيجية الإقليمية لتركيا وحتى مكانة أردوغان التي لا يتهاون فيها.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 14/7/2019