أينما ذهبت وأينما حللت في الأيام الأخيرة، كان موضوع ورشة البحرين حديث الناس، بل غطت الورشة على التوتر مع إيران، وإعلانات الضربة العسكرية، والرد الإيراني، وغيرها من المواضيع. في ورشة البحرين المنعقدة الأسبوع الماضي، تم خلق الانطباع بأن جاريد كوشنر جاء إلى المنطقة من أجل الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
وبالفعل، رفع كوشنر آمال الحركة الصهيونية بتحقيق مكاسب وحلول لمشكلات صنعها تاريخ من العدوان والتطهير العرقي والقتل الجماعي والحروب والاحتلال الإسرائيلي. هذه المرة ترتفع آمال الحركة الصهيونية بوصول ممثليها إلى دول عربية خليجية، كما ترتاح لوصولها لحدود إيران عبر منطقة الخليج، لكن الموقف الإسرائيلي في منطقة الخليج، والورشة بحد ذاتها، يقفان على رمال متحركة، خاصة أن الشرق الأوسط لن يعرف استقرارًا في المدى المنظور. في ورشة البحرين فشل كامل؛ لأنها لم تتعامل مع المشكلات الخاصة بالأرض والمستوطنات وحق العودة وحق تقرير المصير والقدس والسيادة.
في ورشة البحرين، أصبحت دول عربية كثيرة ملعبًا لجاريد كوشنر، الذي استغل مكانته في البيت الأبيض وعلاقته مع الصهيونية لجر الدول إلى ورشة لا يوجد فيها جديد. فالورشة لم تخرج عن كونها مشروعًا اقتصاديًا شديد الانحراف لا يحل أي مشكلة. المبالغ موزعة على سنوات عشر، يصرف منها القليل كل عام، بل قد يصل للسلطة الفلسطينية ما لا يزيد عن 800 مليون دولار سنويًا، وهو المبلغ ذاته الذي يأتي من الدعم العربي الخليجي. وبطبيعة الحال، سيصرف المبلغ لأصحاب المصالح، وسيتحكم بتوزيعه لجان يسيطر عليها كوشنر. بل، بطبيعة الحال، سيحارب المشروع المطروح الرأس المال الفلسطيني الوطني، كما وسيحارب الإبداع المحلي. فالمشروع يرفض الاستقلال الفلسطيني، ويسعى إلى تحكم إسرائيل بكل الأموال.
لقد أبدع جاريد كوشنر عندما اختلق حلاماليًا لفلسطين لم يستطع هرتزل ولا وايزمان أو حتى بن غوريون مجتمعين إيجاده. هكذا، لأول مرة، يشعر مسؤول أمريكي صهيوني الهوى، يتميز بالسطحية وقلة التجربة، بأن حفنة من الدولارات كافية لحل قضية فلسطين المندلعة منذ أكثر من مئة وعشرين عامًا. أليس من الأجدر أن ترمي الولايات المتحدة بعض الدولارات على مشكلاتها مع إيران والصين والمكسيك وروسيا؟ أساس الحل الذي يطرحه كوشنر بسيط: أخذ تبرعات الدول العربية للفلسطينيين، وتحويلها إلى آلية إسرائيلية أمريكية من أجل ضمان مزيد من الاحتلال والاستيطان والسيطرة في فلسطين. لقد وصلت تبرعات دول الخليج للفلسطينيين على مدى العقود، وتبرعت هذه الدول من أجل إعادة بناء الجيش السوري والمصري بعد حرب 1967، وهي نفسها تبرعت لإعادة بناء مخيمات فلسطينية دمرتها الهجمات الإسرائيلية. هذه الدول العربية وفق ما برز عن ورشة البحرين: يجب أن تتبرع الآن لتصفية القضية الفلسطينية.
في ورشة البحرين فشل كامل؛ لأنها لم تتعامل مع المشكلات الخاصة بالأرض والمستوطنات وحق العودة وحق تقرير المصير والقدس والسيادة
إن غياب الفهم التاريخي والموضوعي لدى الولايات المتحدة ورطها في السابق، وعبر قرن من الزمان، في حروب كبرى استنزفتها. لكن في ظل فريق كوشنر، أصبحت المعرفة بالتاريخ والجغرافيا والواقع الثقافي والحقوقي محدودة وركيكة. هذه المرة، الذاكرة الضعيفة وعدم الإلمام بالتاريخ يجعل الولايات المتحدة تسير في حقل من الألغام القابل للانفجار في أي وقت. ومن خلال ورشة البحرين، تمادت الولايات المتحدة، كما تمادت الصهيونية، في اتباع سياسة ستترك آثارًا بعيدة الأمد على الحراك العربي ضد الصهيونية وعلى العلاقة مع الولايات المتحدة. من لا يذكر كيف أزاحت الولايات المتحدة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في العام 1952، وكيف نجحت الولايات المتحدة من خلال عملية لـ «سي آي إيه» إعادة الشاه للحكم. ذلك التاريخ بالتحديد هو الذي ارتد على الشاه نفسه وعلى الولايات المتحدة محدثًا الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979. لقد خسرت أمريكا إيران بفضل سياساتها ضيقة الأفق وعدم إلمامها بالتاريخ والواقع.
ما لا يعرفه كوشنر أنه لا يوجد حل للصراع العربي الإسرائيلي في المدى المنظور والمتوسط، وأن الصهيونية حركة عنصرية تستهدف سكان البلاد الأصليين. فبالرغم من كل محاولات العرب والفلسطينيين إيجاد حل وسط معها، إلا أن كل المحاولات لم يكتب لها النجاح. بل في كل مرة أخذت إسرائيل تنازلا جديدا من العرب سعت لما هو أكبر منه، وفي كل مرة توصل أحد العرب لحل وسط معها، سعت الصهيونية من جانبها لاستنزاف ذلك العربي إلى الحد الذي يفقد أسس الشرعية السياسية التي يقوم عليها حكمه. لقد فعلت الصهيونية ذلك مع الملك عبد الله الأول، ملك الأردن، مما أدى إلى مقتله عام 1950، وفعلت ذلك مع الرئيس السابق السادات، مما أدى لاغتياله، وفعلته مع السلطة الفلسطينية في مراحل مختلفة، بل وعندما شعرت الصهيونية أن المفاوضات قد تصل لحل وسط، قامت بقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين في العام 1995، وقامت بعد ذلك بتصفية ياسر عرفات في 2004، وهي تحضر لتدمير السلطة الفلسطينية الراهنة الأكثر مرونة في التاريخ الفلسطيني.
ورشة البحرين استغلال جديد للحالة العربية الضعيفة، واستغلال لمخاوف الخليج، أو أجزاء منه، لكل الأوضاع الناتجة عن هزة 2011، التي أدت في الوقت نفسه إلى صعود دور إيران وانهيار عدد من الدول في الإقليم. لكن مواجهة انهيار الإقليم، وعدد من دوله، لا تتم بالقمع والتحالف مع الصهيونية، بل أزعم أن عدم الاستقرار سيرتفع، والحراكات ستنتشر؛ بفضل القمع وبفضل التهميش وبفضل تحالفات يقوم بها بعض العرب مع الصهيونية والسياسات الأمريكية الأكثر عنصرية ويمينية.
في ورشة البحرين، أهان كوشنر العرب؛ فتلك الورشة من اللقاءات النادرة التي لم تذكر فيها كلمات أساسية مثل القدس المحتلة والاحتلال وعودة الأراضي وحق تقرير المصير والاستيطان والشرعية الدولية. لقد أفشلت الشعوب العربية وأفشل الشعب الفلسطيني، عبر المواقف الواضحة، الورشة اللاورشة. فأصل المشكلة في الحقوق، ولا يمكن تجاوز ذلك بحفنة من الدولارات والوعود والتهديد.
إن مسيرة النضال من أجل الأرض وتقرير المصير لن توقفها ورشة البحرين التي أغلق عليها التاريخ أبوابه بمجرد انتهائها.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت