خلال خمس عشرة ساعة وثلاث دقائق -هي الفترة التي أخذتها- و أنا أتصفح 267 صفحة ماتعة، ضحكت مرة واحدة حين تهكم موسى على وجبة مطعم الجامعة كونها لا تفسد الصوم، لأنها لا تصل الحلق لضآلتها، ومسحتُ الدمع لمرتين، الأولى عندما كانت وردة تودع حبيبها سيدي في مطعم زبيدة، بينما مثّل الموت الفجائي لسعاد في حادث السيارة المتجهة لأدباي للتعزية ثاني لحظة من لحظات الدموع.
تجلى الكاتب الشيخ نوح في هذه الرواية في بعض الأحيان عاقدا كميه، ثم واقفا بين بنات أدباي، وهن يسحقن الذرة في الهاون، ليتحول إلى جزء من أدباي في أنصع صوره كتجسيد للإنسان المتروك لرحمة الله وللألم .
و في أحايين أخرى ينبري الشيخ نوح الكاتب مرهف اللغة و العبارات، متورد المعاني، واسع الباع في اللغة، متخذا من السهل الممتنع طريقا في رحلته الممتعة إلى أدباي، الذي تتمنى لو أنك زرته على ظهر سلحفاة كي لا تسرع بك الخطى، حتى تتشبع بالمواقف والتفاصيل، التي يعطيها الكاتب حقها في الحفر والتأصيل.
وفي مواقف أخرى من النص يظهر الكاتب في جبة المناضل الشرس المؤمن بقضية الإنسانية والعدل. هذا الإنسان الذي يجب أن يكون لازمة في كل مجتمع متوازن وعادل، لكن المناضل في رواية أدباي يختلف كثيرا عن ذلك الذي نعرفه في الفيسبوك و الواتساب، و حتى في مظاهرات العاصمة. فهذا المناضل تسكنه القضية، ويجدها في كل تفصيل من يومه، إذ تظهر في الرواية شخصية أكثر نضجا وعمقا ونظرة نقدية تقيّم – بين سطور الرواية- الساحة السياسية و الموروث الاجتماعي و الثقافي، و كأنها توازي رمزية موسى في تلك الجزيرة التي بات فيها مهاجرو رواية أدباي ليتلهم.
إن هذه الشخصية المناضلة ليس لها من الأمر إلا أن تقيّم وتؤمن بالثورة كما يفرض عليها الأمر الواقع ذلك، ولكن السؤال الملح هو كيف لجزيرة معزولة تحيطها المياه الزرقاء المالحة أن تحدث أي تغيير؟.. ومع كل هذه العوائق فإن النضال في رواية أدباي لم يكن نضالا سلبيا نقديا فقط، بل كان تقويما للواقع و نقدا كون أجيالا واعية وملتزمة، تعود من أجل التغيير في أدباي ناء متروك، لا أحد ينحاز له.
كانت شخوص الرواية تشبه الواقع، كتلك القصص التي يمكنك بسهولة ربطها بشخص ما تعرفه في يومياتك، إلى درجة أنك من الممكن أن تتوقع السطرين القادمين في الصفحة التي تحت ناظريك دون عناء.
جسدت رحلة موسى رحلة الحكم في البلاد. بلاد بها الكثير من النكبات و الاجتهاد في تقديم شيء ما، ولكن في النهاية يموت المرء بسبب بسيط و خطأ ارتكبه أطباء سذج، قرروا أن هذا المرض غير خطير، فبماذا يختلف أولائك الأطباء عن محاولة تصحيح مسار البلاد التي شهدت انقلابات وانتخابات وسجلات وحوارات، ولكن النتيجة كانت هي ذاتها. لاشيء غير الموت المحتوم نتيجة خطأ تقييمي ناتج عن قلة الخبرة أو عدم الاهتمام.
لم تبد سعاد شخصية ذات بال بالرغم من أنها بطلة الرواية، و رغم أن ذكرها يتكرر على ألسنة نساء أهل أدباي، و رغم أنها كانت غنية بكل بالجمال و الروعة و المعرفة، و الجميل في النص هو أن أسرة سعاد لم تكن طاغية الحضور ولا بارزة في السرد؛ إذ تم ذكر أبيها في النص أقل من خمس مرات، كلها فقط للإشارة لسعاد ذاتها، ثم في مفاجأة صادم مثلت ذروة اللامتوقع تموت البطلة في حادث على طريق محفر، ويصاب البقية بجروح. كم كان الأستاذ الشيخ نوح ذكيا حين جعل الوطن متجسدا في تلك الشخصية التي لا يريد منها الجميع إلا جمالها، فالوطن لجى الغالبية ليس إلا كنزا من الثروات والامتيازات.
أما حين ينسحب أستاذ الرياضيات من خطبة سعاد بسبب الحب الذي تكنه لموسى، فإنه بذلك يجسد المقولة التي يواصل بها الظالم حماقاته والناس صامتون “الفتنة نائمة…” فهذا التراجع عن قرار الزواج بسعاد هو الثورة ذاتها، فموريتانيا هي المأزق الذي لا يريد أي كان أن يتورط فيه، و حين تموت يكون ذلك بطريقة تختفي معها كل آثارها بما في ذلك شاهدة القبر، ولن يكون هناك متسع من الوقت لذرف الدموع عليها لأن لكل ألمه الخاص و مصالحه الخاصة التي لا تتيح له من الوقت ما يسمح له بسماع أي أنين خارج ذاته اللصيقة.
لم يكن اسم سعاد بحد ذاته بالشيء العادي، فهل تعني الحالة العاطفية التي ترمز في الحسانية للنهاية، أم تجسد الحالة الشعورية التي تعني نشوة الفرح بشيء ما؟ موسى نفسه حين بكى لم يكن أحد يعرف أيبكي سعاد أم والده، وهذا الالتباس والتداخل في أصداء الحزن يمثل بشكل ناجح الحالة النفسية والسياسية والاجتماعية لهذا البلد!.
رسمت وردة الخط الناظم ليس للنص فقط، بل أيضا للمأساة الاجتماعية التي رسمتها رحلة فتى من أدباي من الجنوب الموريتاني إلى قنصلية في إسبانيا بلا أوراق ثبوتية، ليتلقفه صديق قديم في الجامعة، كانت وردة تمثل من جهة ذلك الوجه الجميل الباسم للإنسانية يوم أنقذتها زوجة خالها من الموت، وذلك الوجه المقيت للحياة من جهة أخرى، حين يترك رجل حبيبة عمره و جنينها خوفا على نفسه من الهلاك.
كانت تجسيدا للعنة العبودية حتى لو حملت اسم “الخظر أو لخوال”، فإنها تبقى دائما ذلك المسخ الذي يسمى استغلال الإنسان للإنسان في أبشع صوره، حين يتجني الإنسان على الله جل وعلا؛ وذلك عندما يعتبره ظالما و عنصريا – علا قدره و جل شأنه- و يحرف كلام الله عن مواضعه خدمة لأغراض ذاتية و على مقاسه الشخصي.
بين سطور أدباي هناك الكثير من القصص، هناك الكثير من الأشياء المهمة والعصية على التجاهل، إنها نص للإنسان مهدور الكرامة و الحياة، الإنسان الذي لا يتوفر له أي أفق في الوجود أو فرصة في العيش الكريم، الإنسان الذي عليه أن يثور لنفسه، ولعل ابريكه يشكل هذا النموذج، فهو حين ثار أسس أدباي، غير أنه كان يتمتع بمستوى من الوعي والنباهة بحيث لم يقبل أن يجعل معركته آنية، بل ورثها للأجيال اللاحقة. هنا بالذات تظهر عبقرية الكاتب حين ينتقد واقع النخب المأزوم، سواء الوطنية أو تلك التي تبدو أكثر شرائحية، عندما تفشل في نقل نضالها إلى الجيل الأكثر شبابا بالطريقة التي تليق بقضية يتقوف عليها مصير بلد.
كانت شخصية سيدي هي روح الرواية، فهو المدافع عن مواقف صديقه وعن العدالة، بالرغم من كونه يظهر بكل الأحوال بطريقة تبدو أقل حنكة ولا تحقق الكثير في ذلك الوضع.
لقد كان سيدي في النص الشخصية التي تمثل القضاء والعدالة في موريتانيا البعيدة. هذه العدالة التي كان من المفروض أن مهمتها إنصاف أهل أدباي، إلا أن هذا القانون المتمثل في سيدي حينما تصرف كان مقيدا، فيوم أصاب سيدي بطن الشيخ لحية العتروس بحجر لم يستطع الكشف عن هذا الموقف بسبب اعتباره أنه موقف لا أخلاقي، بالطريقة ذاتها يخنق سياقنا الاجتماعي دور القضاء، الذي تنتزع منه المصالحات الاجتماعية و الصمت الاجتماعي سلطان أي تحرك لتحقيق العدالة.
لقد كانت رواية الشيخ نوح “أدباي” سجدة مكتملة الأركان و الواجبات و الفرائض، وإن كان هناك قلة خشوع، وتلك حالة طبيعية فأي مصل يكتب له ما حضر من صلاته، و ما حضر الشيخ نوح من تاريخ هذا النضال قدمه على أكمل وجه، و بالطريقة التي تليق بمثقف عركته التجارب، بالرغم من حداثة سنه فله كل الاحترام و التقدير على جهده الذي ستظهر الأيام قيمته لهذه الأرض التي تعودت ثقافة الاحتفاء بالأموات وتجاهل الأحياء.
المصدر : تقدمي