عماد شقور
في ملحمة/أسطورة جلجامش، وهي أقدم أسطورة في التاريخ المسجل والمعروف، نجح جلجامش، وهو خامس ملوك أوروك السومرية، قبل خمسة آلاف سنة، في العثور على «شجرة المعرفة»، وأعطى ثمرة من تلك «الشجرة» لمنافسه المتوحش انكيدو، من خلال «الكاهنة الأم»، فتحول هذا من مخلوق متوحش إلى إنسان سوي. وبعد مصارعات عنيفة بينهما، تحول انكيدو ليصبح أقرب الأصدقاء لجلجامش، حتى لكأنه شقيق روحه. وعندما أصيب انكيدو بالمرض الذى أدّى بالنتيجة إلى وفاته، فقد جلجامش صوابه، وبذل جهدا فوق طاقة البشر بحثا عن «شجرة الخلود»، على أمل أن يعود بغصن منها إلى اوروك، لينقذ شقيق روحه من الموت، ويمنحه الخلود.
عرف جلجامش من عرّافته أن «شجرة الخلود» في جزيرة اسمها «دِلمون»، فقصدها، ووصلها بعد عناء ومصاعب ومغامرات، وحصل على غصن صغير من شجرة الخلود، وعندما كان في قاربه عائدا إلى البر من جزيرة دلمون، سقط غصن شجرة الخلود من يده في مياه البحر، فالتهمته الأفعى قبل أن يتمكن من الوصول إليه واسترداده، وأصبحت الأفعى هي المخلوق الذي يسترد حياته من جديد كل سنة، باستبدال جلدها وخلود روحها.
«دلمون» هي جزيرة/دولة البحرين الحالية، ودلمون في لغة ذلك العصر العتيق، تعني الجنّة وأرض الخلود.
في عاصمة بحرين هذه الايام، المنامة، وبالذات، يحاول جارد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ومستشاره أن «يخلّد» اسمه، كراعٍ لـ«صفقة القرن»، في خطوته الأولى، «ورشة عمل الازدهار الاقتصادي الفلسطيني»، (!!!)، بهدف إلغاء «الحقوق الخالدة» للشعب الفلسطيني في الحياة والاستقرار والسلام والسيادة على أرض وطنه فلسطين.
أغرب تعبير سمعته هذه الأيام، في مناقشة بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب للخطوة الأمريكية، بعد إعلان أمريكا أن مصر والأردن والمغرب أبلغت واشنطن قبول دعوتها للمشاركة في «ورشة البحرين»، ( وذلك بعد ترحيب سابق من السعودية والإمارات العربية المتحدة)، بـ«الورشة»، وقرارهما المشاركة فيها، هو تعبير أن الفلسطينيين وحدهم «فقط»، (!)، يغيبون عن هذا المؤتمر/الورشة.
«عرسٌ كامل الأوصاف» في المنامة، باستثناء واحد «فقط» هو أن العروس/غير راضية، غير موافقة وغير حاضرة أيضا، حفلة العرس. العريس كالطاووس على المنصة، يحيط به الموافقون والقابلون من بعض أعمام وخالات «العروس»، على اتمام مراسيم الاحتفال بعقد القران، بعضهم يغنّون، وبعضهنّ يرقصن، لكن العروس رافضة. لم تحضر.. ولن تحضر، ولن تتطلق من أرضها وشعبها وتاريخها العريق، وحاضرها الصعب، ومستقبلها الأكيد.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تشبّه فيها فلسطين بالعروس. يقول أستاذ التاريخ في جامعة حيفا، بنيامين بيت هالِحمي، في كتابه «تاملات في تاريخ الصهيونية وإسرائيل» الصادر سنة 1992: «هناك قصة شهيرة، قيلت خلال لقاء بين رئيسة الوزراء غولدا مئير ومجموعة من الكتاب الإسرائيليين في عام 1970: زار يهودي من بولندا فلسطين سنة 1920، وعندما عاد، لخص انطباعاته بالقول: «العروس جميلة، لكنها حصلت على عريس بالفعل». وردت غولدا مائير بالقول: «وأشكر الله كل ليلة أن العريس كان ضعيفا جدا، وأمكن أن تؤخذ العروس منه». ولم يوضح الأستاذ الإسرائيلي أن صاحب مقولة «العروس جميلة، ولكنها متزوجة»، هو أحد الزعماء المؤسسين للحركة الصهيونية، والمشارك البارز في مؤتمرها الاول في بازل بسويسرا سنة 1997، والمنافس الأبرز لهرتسل، أبي الصهيونية السياسية، اضافة إلى ان إحاد هعام هو مؤسس «الصهيونية الروحية».
يقول صديقي، الباحث والمدقق السوري الكبير، فراس السواح، في كتابه بعنوان «انجيل التاو»، والذي يشرح في مقدمته وفي متنه وفي خاتمته عن هذه الديانة العظيمة، أن ليس هناك، حسب الديانة والنظرية التّاوية، أي شيء في الوجود بدون نقيضه، وبدون شيء من نقيضه فيه.
«صفقة قرن» دونالد ترامب تموت أمام أعيننا ببطء مُمِل وبموت محسوب ومعروف سلفا
رمز الديانة التاوية هي تلك الدائرة المقسومة إلى نصفين بخط غير مستقيم، لكنّه منحنٍ بإتقان. نصفها أبيض فيه دائرة سوداء بالغة الصِّغر، ونصفها الثاني أسوَد تتخله دائرة بيضاء بالغة الصِّغَر، لتظهران وجود التناقض والتكامل معاً. إذ ليس هناك في الطبيعة، على الإطلاق، طويل إلّا لوجود قصير، ولا وجود لقريب إلّا لوجود بعيد، ولا وجود لجميل أو قوي، إلّا لوجود قبيح أو ضعيف.
تصل هذه النظرية الدينية التّاوية إلى منتهاها، (إن كان لها منتهى أصلاً)، إلى أن لا وجود للكتلة في الطبيعة، إلّا إذا كان هناك فراغ. إذ ما يجعل الشُّباك أو الباب في البيت شُبّاكا أو باباً، وهو بطبيعة الحال ليس إلّا فراغاً، إلّا وجود كتلة تحيط به من كل جانب، اسمها، بلُغتنا، حائط، أي كتلة.
قبل ان أصِلَ إلى ما أريد قوله، عن حالتنا الفلسطينية الراهنة، أجد من الضرورة تسجيل ملاحظة لا بد منها:
كل دماغ بشري، والدماغ الفلسطيني والعربي منها، لا يحتمل وجود فراغ، كما لا يحتمل الاقتصار على وجود الكتلة. وما لم يكن الدماغ الفلسطيني مملوءاً بالمعرفة والفهم والإدراك، فإن كل فراغ فيه يمتلئ بالخرافات والتفاهات والغيبيات والغباء وما قد يعتبره البعض، مخطئين، إيماناً.
هنا أصل إلى ما أرجو عرضه وشرحه، وما أرى ضرورة توضيحه والدعوة إليه من عمل ومبادرات، لا تنتظر فعل الفاعلين في تل ابيب أو واشنطن أو غيرهما من عواصم عالمية، (أو حتى عربية)، مناوئة ومعادية، أو عواصم عالمية، (أو حتى عربية)، مناصرة وداعمة، بل تبادر وتقاتل لتتولى هي زمام المبادرة والفعل، وتترك لكل تلك العواصم العالمية والعربية، مهمة رد الفعل على المبادرات، وليس فقط المبادرة الواحدة، التي تطلقها منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي، وأهم من ذلك: الوحيد، للشعب الفلسطيني، في كل أماكن تواجده: في الداخل، وفي داخل الداخل، وفي دول اللجوء، وفي دول الشتات ايضاً.
كان من الممكن لنا أن نبتعد عن مثل هذا الكلام، لو كنا سنحظى بالاحتفال المهيب والصاخب، بسقوط مريع وضجيج يصُمّ الآذان لـ«صفقة القرن». لكن «صفقة قرن دونالد ترامب» تموت أمام أعيننا، ببطء مُمِل، وبموت محسوب ومعروف سلفا، ولا تحظى هذه الميتة إلا بما يسمونه في لغات بعض الصحافة العصرية العظيمة «جنازة كلب» أو «جنازة حمار» لا يكترث بها أحد.
يعيش الفلسطينيون، جميعهم في إسرائيل، وفي الضفة الغربية (والقدس منها)، وفي قطاع غزة، وفي دول اللجوء والشتات، في فراغ، تعمل إسرائيل ومناصروها، من عرب ومن روم، على ملئه بما يلائم مصالحهم المناقضة لمصالحنا، تماما كمناقضتها للحق المطلق، وللعدل النسبي، كما للشرعية الدولية أيضا.
تزخر الساحة الفكرية والصحافية الفلسطينية باقتراحات ومبادرات لملء هذا الفراغ بمبادرات فلسطينية جديرة بالتوقف عندها ودراسة إمكانية تحويلها إلى برامج عمل ومخططات تحرك وقواعد لخرائط عمل نضالي وسياسي ومجتمعي وتعلمي واقتصادي.
يكفي أن نتوقف عند بعض ما يقوله ويدعو إليه تيسير الزِّبري وسمير حليلة وهاني المصري وعبد المجيد سويلم وعشرات آخرين، لتتكشف امام أعيُننا إمكانيات تحرك ومبادرات فلسطينية بلا حدود.
وإن كان لا بد من مساهمة، فإنني أعيد وأُكرر، بدون ملل ولا يأس، مبادرة دعوت، وأدعو لها، من سنين عديدة، عنوانها ومُلخّصُها، هو مطالبة اسرائيل، وبريطانيا ايضاً، بالتعويض بمئات مليارات الدولارات عن الأملاك الفلسطينية العامة، (وللأملاك الفلسطينية الخاصة باب آخر ينطبق عليه ما ينطبق على المطالبات الفلسطينية الخاصة بحقوق وأملاك اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل وفلسطين ودول اللجوء والشتات)، في المناطق التي ضمتها إسرائيل إلى ما يسمّى «داخل الخط الأخضر»، من غير ما أقرته الشرعية الدولية، الظالمة أساسا، في قرار التقسيم يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947.
أرجو وآمل أن تبادر حكومة الصديق الدكتور محمد اشتية، بتشكيل مكتب متخصص لبدء تحديد تلك الأملاك في تلك المناطق، (بحدود 25٪ من أرض فلسطين)، من سكك حديد وطرق وموانئ وبنى تحتية ومستشفيات وأراض وأحراش ومراع وغيرها. هذه حقوق لنا، استردادها يغنينا عن كل مساعدات ومنح «الدول المانحة».
للتذكير فقط أقول: آخر أزمة بين إسرائيل وبولندا، قبل أسبوعين، تفجرت عندما رفضت بولندا استقبال وفد حكومي إسرائيلي، قصد بولندا للتعويض على إسرائيل عن أملاك لليهود في بولنداـ تمت مصادرتها من قبل بولندا أيام الحرب العالمية الثانية، أي منذ نحو ثمانين سنة. وعمر نكبة فلسطين أقل بنصف عقد من ذلك بدون أن ننسى أن التعويضات الالمانية أساسا، والأوروبية عموما، هي التي شكلت القاعدة والأساس للاقتصاد الإسرائيلي الذي جعل من إسرائيل واحدة من الدول الاقتصادية القوية في العالم.
كاتب فلسطيني