صبحي غندور
لا أعلم لِمَ هذا التناقض المفتعل أحياناً بين العروبة وبين البعد الديني الحضاري في الحياة العربية، فتواردهما معاً هو واقع حال هذه الأمّة، وهو حالٌ مميِّز للأرض العربية التي منها خرجت الرسالات السماوية كلّها والرسل جميعهم، وعليها كلّ المقدّسات الدينية، وهي أيضاً (أي العروبة) الوعاء الثقافي للحضارة الإسلامية ولغة القرآن الكريم.
إنّ الطروحات الإسلامية والقومية كانت موجودة منذ مطلع القرن العشرين بل وقبله، لكن التوقّف عند النصف الأخير من القرن العشرين هو أمرٌ مهمٌّ بسبب وصول بعض التيّارت القومية والدينية إلى السلطة وتحوّلها من الدعوة الفكرية إلى الممارسة السياسية في الحكم أو في المعارضة، ومن ثمّ فشل معظم هذه الحركات في إقامة النموذج الجيّد المتواصل زمنياً، والمنتشر مكانياً.
أيضاً النصف الثاني من القرن العشرين تميَّز عن نصفه الأول من الناحية العالمية بانتقال العالم من صراعٍ دولي وسط الدائرة الحضارية الغربية الواحدة (فرنسا- بريطانيا- إيطاليا – ألمانيا) إلى صراعٍ دولي ذي طابعٍ أيديولوجي (شرقي شيوعي/غربي رأسمالي)، وصراعهما المباشر وغير المباشر في بلاد العرب، والذي فرز المنطقة بطابع أيديولوجي وكان أحد أسباب صراعاتٍ عربية/عربية في أكثر من مجال ومكان، إضافةً إلى تأثيراته الكبيرة على الصراع العربي/الصهيوني وعلى القضية الفلسطينية.
أمّا سمات القرن الحادي والعشرين، فلا تقوم حتّى الآن على صراع دولي بطابع أيديولوجي (عقائدي)، بل على تنافس بين قوى كبرى على الاقتصاد والتجارة والمصالح ومناطق النفوذ. ولمسنا في العقدين الماضيين من القرن الجديد تراجُعاً للطروحات الاجتماعية التي كانت سائدة في منتصف القرن الماضي (الاشتراكية والعدالة الاجتماعية)، بينما نشطت الطروحات السياسية حول الدين والديمقراطية وأساليب الحكم السياسي. كذلك تراجعت شعارات الاستقلال القومي بالمعنى السياسي، وتقدّمت شعارات تحضّ على الشعوبية والعنصرية المتجاوزة للحدود الوطنية، كما تصاعدت دعوات التمايز الثقافي والحضاري بين أمم وشعوب.. وبالتالي انخفض الحديث عن القوميات بالمعنى السياسي وارتفع الحديث عن الخصوصيّات الدينية والثقافية والحضارية.
ولم تعُد “مسألة العروبة والإسلام” قضيةً خاصَّة بالعرب فقط، بل هي الآن مدار نقاشٍ وترصّد في العالم كلِّه غربه وشرقه.. وكجزء من الأمن الداخلي وليس فقط من ناحية ثقافية أو كشأن من شؤون السياسة الخارجية، وأصبح الحديث عن “الإسلام” في الغرب مرتبطاً بممارساتٍ وأعمال عنفٍ لحركات متطرّفة إرهابية. فأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 (بحكم حجمها ومكانها ونوعيتها) فرضت التعامل العالمي مع الطروحات الثقافية والدينية المتباينة بين الشعوب كمسألة مرتبطة بالأمن الداخلي!.
لكن في المراحل العربية المختلفة من القرن العشرين، كانت أبرز المشاكل والتحدّيات التي تواجه العرب هي:
التشرذم العربي والانقسامات السياسية والصراعات الحدودية كمحصّلة لمشكلة التجزئة التي صنعتها اتفاقيات “سايكس-بيكو” بين بريطانيا وفرنسا.
التحدّي الصهيوني الذي بدأ بوعد بلفور في مطلع القرن العشرين، وما زال قائمأ وفاعلاً بحكم ارتباطه بالسيطرة الخارجية على المنطقة وبالدعم الغربي الكبير لإسرائيل، ممّا أعطى الأولوية لمعارك التحرّر الوطني والقومي.
صيغ الحكم والعلاقات الدستورية في المجتمع ومشكلة انعدام الديمقراطية.
مشكلة انعدام التخطيط الاقتصادي العربي الشامل وتعثُّر محاولات التنمية والإصلاح الاجتماعي.
***
وقد حاولت كلّ التيَّارات السياسية والفكرية في المنطقة التعامل مع هذه التحدّيات والمشاكل بطريقةٍ مشتركة أو مُجزّأة، لكن بقيت المشاكل والتحدّيات، وفشلت الحركات والتيَّارات المختلفة والمتناقضة أحياناً!.
لذلك، فإنّ الأمّة العربية وأوطانها بحاجةٍ الآن إلى بناء مشروعٍ فكري/سياسي عربي يقوم على:
عروبة حضارية. عروبة تستند إلى المضمون الحضاري الديني للأمّة وإلى دور الرسالات السماوية عموماً في الحياة العربية.
عروبة وطنية. عروبة لا تجد تناقضاً مع تعدّدية الأوطان، بل تعمل لتكاملها وفق النموذج الأوروبي في الحدِّ الأدنى (الاتحاد الكونفدرالي) أو الأميركي (الاتحاد الفيدرالي) كطموحٍ أقصى.
عروبة ديمقراطية. عروبة تقوم على الديمقراطية في نظام الحكم وفي أساليب المعارضة وفي علاقات المجتمع ككلّ.
عروبة لا عنفيَّة. عروبة ترفض استخدام العنف لتحقيق دعوتها أو في علاقاتها مع الخارج، وعروبة تميِّز بين الحقّ المشروع لأبناء أوطانها المحتلَّة بالمقاومة ضدّ قوات الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضدّ غير المحتلّين وخارج الأراضي المحتلّة.
***
فصحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجةٌ ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي الديقراطية) ليست مسألةً منعزلة عمّا تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا ينفصل عن تحدّيات الوجود الإسرائيلي والقوى الأجنبية الكبرى (الإقليمية والدولية) وما لها من أطماع أمنية وسياسية واقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان الأمّة العربية.
ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل بين الناس، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأراضي المحتلّة .. وهي كلّها حالات تعيش معظمها الآن أوطانٌ عربية مختلفة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. فرفض الحكومات والنظم الشمولية يقتضي الآن عربياً أفكاراً وحلولاً شمولية.
الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي. وبتوفّر هذا المشروع، والمؤسّسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معاً. فالمشكلة ليست بتجارب النظم “الشمولية” فقط، وإنّما هي أيضاً بالأفكار والتجارب “الاجتزائية” التي تُجزِّئ الحلول المنشودة لأمَّةٍ جزّأها منذ قرنٍ من الزمن المستعمر الأجنبي، ويحاول ورثته الآن تجزئة المجزّأ !
فإذا فهمنا العروبة بأنّها إطار ثقافي وهُوية ثقافية لا تميّز على أسس دينية أو إثنية أو خصوصيات وطنية، وبأنّ هذه “الهُوية” تضمّ تحت مظلّتها مختلف التيّارات الفكرية والسياسية – ومنها ما هو يُصطلح على تسميته بالتيّار الديني وبالتيّار العلماني- فإنّ ما هو منشود، وما هو مفقود الآن، هو “مشروع فكري عربي” للمستقبل العربي كلّه، مشروع يشترك فيه الحريصون على وحدة أوطان الأمّة العربية وتقدّمها وتحرّرها مهما اختلفت منطلقاتهم الفكرية ومواقعهم السياسية.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن