دكتور محيي الدين عميمور
كان تكذيب السفارة الفرنسية بخصوص ما راج عن استفسارها حول ملابسات اعتقال رجل الإعمال “الجزائري” إيسعاد ربراب فرصة لكي يسارع البعض إلى التغني ببلاغيات مضمونها أن شعبنا بلغ من الوعي درجة لا تمكن أي قوة أجنبية من اختراق صفوفه، وذلك لكي يَسْخر من “العربْ” الذين ينسبون كل شيئ لمؤامرة أجنبية، مع ما في السخرية من تعريض بشخصيات وطنية نبّهت إلى دور خارجي يُحاول التأثر على الأحداث، بعد أن فشلت بعض عناصره الداخلية في ركوب موجة “التسونامي” الشعبي الهائل، وفشلت عناصر أخرى في انتزاع مواقف داعمة لطموحها من القوة الوحيدة المنظمة والمنضبطة في البلاد التي تتجسد في المؤسسة العسكرية، وهي مؤسسة كنت ذكرت أن عقيدتها القتالية ما زالت نفس عقيدة جيش التحرير الوطني.
ولا شك أن نسبة كل تعثر وطني لمؤامرة خارجية هو هروب إلى الأمام وتهرب من مسؤولية اليقظة الدائمة والمتابعة الدقيقة لتطورات الأحداث، لأن اللصوص بكل أنواعهم ودرجاتهم لا يجرؤون على سرقة ما يحميه الرجال (ولم أقل … الذكور، لأن الرجولة هي مواقف وليست هرمونات وأعضاء تناسل).
لكنني أعرف أن مدبري المؤامرات هم أول من يحرص على نفيها واستثارة السخرية ضد من يحذرون منها، وهو ما يعني أن المؤامرة الحقيقية هي نفي دور المؤامرة، وهو ما نعيشه اليوم.
وليس من باب التجني أن أذكر بما هو معروف بالضرورة من دروس التاريخ، وأن الشمال الإفريقي كان دائما محط أطماع الشمال الأوربي، سواء تعلق الأمر بروما القديمة أو بالإمبراطورية المقدسة أو بالدول الأوربية المعاصرة، لا فرق بين هولندا وبلجيكا ولا بين فرنسا وإيطاليا ولا بين إسبانيا والبرتغال ولا بين ألمانيا وبريطانيا، ومن هنا لن أزعج القارئ باستعراض ما تمتلئ به صفحات عمنا “غوغل”، أكرم الله من اخترعه.
سأكتفي باستعراض بعض ما عشته شخصيا من وقائع، أعترف أنها تبدو صغيرة وهامشية ولكنني أرى لها دلالاتها العميقة التي تؤكد أن نظرة فرنسا الاستعمارية ما زالت كما كانت في السنوات التي سبقت 1830 والتي تلتها، ولا أقصد هنا المواطن الفرنسي المشغول باحتياجاته اليومية بل أقصد الاحتكارات الفرنسية الكبرى، والبترول في مقدمتها والبضائع الاستهلاكية بكافة أنواعها موجودة على القائمة، التي يتصدرها الوجود الثقافي الفرنسي، بصفته القوة الناعمة التي تحافظ على الوجود الفرنسي بدون الحاجة لوجود بشري فرنسي، مدنيا كان أم عسكريا.
وأوضح هنا أنني لست ممن يُروّجون لشعارات معاداة الدولة الفرنسية، بل على العكس أقول وأكرر بأن التعاون مع فرنسا ضرورة حيوية للبلدين على أساس مصالحة تاريخية، تضمن المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
وأعتقد أن هذه هي مشكلة العلاقات مع بلاد الجن والملائكة، فبينما نريد نحن مصالحة على غرار مصالحة “فرنسا / دوغول” مع “ألمانيا / أديناور”، تريده الأطماع الفرنسية كمصالحة “ألمانيا – هتلر” مع “فرنسا – بيتان”.
وما سوف أتناوله في هذا الحديث هو مجرد ذكريات أترك لمن يريد استخلاص النتائج التي يراها، أما من لا يريد فأدعوه لقراءة مواضيع أخرى قد يراها أكثر أهمية.
وأذكر بداية أن الفراغ الإداري الذي عشناه في السنوات الأولى لاسترجاع الاستقلال فرَضَ الاستعانة بكل من يوجدون في الساحة من الجزائريين، وهكذا تسرب إلى الإدارة بشكل خاص كثيرون ممن اصطلح على تسميتهم فيما بعدُ “حزب فرنسا”، وجلهم ممن عاشوا على هامش الثورة المسلحة، أو من أبناء وأحفاد من وقفوا ضدها بشكل أو بآخر، والذين كنت حذرت منهم في الثمانينيات في مقالات عرفت في الجزائر بسلسلة “الطلقاء”، والإسقاط التاريخي واضح.
هؤلاء الطلقاء ومن يستندون إليه ذعروا ودقت أجراس الخوف في حياتهم خلال زيارة الرئيس جمال عبد الناصر للجزائر في بداية الستينيات، عندما استقبله خلالها الشعب الجزائري بحفاوة لعلها فاقت حفاوة أبناء مصر به، ومن هنا بدأت العناصر المتناقضة مع الانتماء العربي الإسلامي في التحرك، وكان تحركهم خلال العقدين الأولين هادئا هدوء الأفعى متسترا بالظلام كخفاش الليل، ربما نتيجة لقوة شخصية رئيس الجمهورية، سواء كان اسمه أحمد بن بله أو الهواري بو مدين، ومع ذلك عشنا في فترات متتالية انفجار قنبلة هنا ولغم هناك، وخصوصا عندما كانت البلاد تأخذ خطوة جادة على طريق تحقيق أهداف أول نوفمبر، وبوجه أخص عندما يتعلق الأمر باسترجاع الثروات الوطنية أو بالتقدم في عملية التعريب.
وهكذا عرفت الستينيات تكوين الأكاديمية البربرية في فرنسا إثر تأميم الجزائر للمناجم في 1966، وعَرفت بداية الثمانينيات الأحداث التي كانت ردا على زيارة الرئيس الشاذلي للوطن العربي، والانطلاق في مرحلة جديدة من مراحل التعريب.
وطرأت أحداث وجدّت ظروف غاب فيها ملك الغابة، وجعلت الأرانب يرون أنفسهم أسودا، فاختل الاقتصاد وتميعت السياسية وبهتت الثقافة، وخدع كثيرون بمنطق “غنيمة الحرب” فتحولت الفرانكوفونية المؤقتة إلى وجود دائم مستمر، ثم إلى فرانكوفيلية لا تخفي وجودها بل وتعتز به، لتصل إلى مرحلة الفرانكومانية الإقصائية التي تحارب اللغة العربية بكل الأساليب، بما في ذلك الدعوة تارة إلى استعمال العامية، وتارة بالمزايدة على استعمال لهجة بربرية بعينها، والهدف في نهاية الأمر هو فرض الاستلاب على الأمة كلها وتحقيق التبعية التي كان يعمل لها الجنرال شارل دوغول، وإلى درجة أنها استطاعت إفشال عملية تعريب المحيط التي كانت خلفية مشروع اقتراح مدينة الجزائر “عاصمة للثقافة العربية” في 2007، والذي كنت انتزعتُ الموافقة عليه في مؤتمر وزراء الثقافة العرب عام 2000.
والمثير للسخرية أن من بعض من تعلموا في المدرسة الجزائرية المعربة رفعوا لواء الإزدواجية اللغوية، وهي ازدواجية مقصورة على اللغة الفرنسية دون غيرها من اللغات الحية، لمجرد أن عيونهم ملتصقة بجوائز تقدمها مؤسسات فرنسية مرتبطة بمصالح معينة هناك، ومعروف أن معظم تلك الجوائز الفرنسية هي مكافآت مسيّسة لأهداف واضحة، أهمها المحافظة على النفوذ الفكري الفرنسي، وما يحققه من مكاسب سياسية واقتصادية.
ولن أستعرض الاستهداف الفرنسي للاستقلال الجزائري بل سأكتفي ببعض القضايا التي عشتها شخصيا، والتي أرى أنها تعبر عن مضمون ما أريد توضيحه.
في منتصف السبعينيات كانت المصالح الرئاسية المكلفة بإعداد الزيارة الرسمية الأولى للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان قد بذلت جهدًا مضاعفًا لدراسة كل التفاصيل، ولاتخاذ كل الاحتياطات الكفيلة بجعل الزيارة صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين، ولعل الصورة التي كانت تشكل خلفية مركز صناعة القرار الجزائري هي صورة التصالح الألماني – الفرنسي، الذي تم على يد كل من آديناور ودوغول، وربما أيضًا صورة الدور الذي يمكن أن يقوم به البلدان لبناء نظام عالمي اقتصادي جديد (جديد فعلاً) على ضوء خطاب الرئيس بومدين لأعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام السابق، باسم حركة عدم الانحياز.
وربما كان هناك من يغذي أحلامًا، لعلها كانت أوهامًا، محورها الأمل في أن يكون القوم على الجانب الآخر من المتوسط قد تمكنوا من تجاوز آثار الحرب الجزائرية، وفهموا تعبير الرئيس بومدين عن التمزيق النهائي للصفحة، وأدركوا أهمية النظرة المستقبلية للجزائر المستقلة، التي لم تلجأ في خطابها السياسي التجنيدي للأسلوب الصهيوني، الذي يرتكز على مواصلة إثارة عقدة الذنب عند خصوم الأمس، بأسلوب لا يختلف كثيرًا عن الابتزاز الرخيص الذي يحمل عادة اسم “الشانتاج” (ولقد أثبت التاريخ أن الأسلوب الصهيوني كان أكثر فهمًا لتوازنات العصر، وأكثر فعالية في تحقيق المصالح العليا للكيان الصهيوني، ربما لأن مراكز صنع القرار في إسرائيل كانت مستقلة تماما، ولم يكن فيها من يمكن اعتباره، أو ما يمكن اعتباره، ارتباطًا بمفاهيم التفوق الآري أو امتدادًا للفكر النازي، وهكذا لم تكن تلك المراكز تتأثر بغير معطيات الانتماء القومي، المنصهر في بوتقة اللغة العبرية، التي جعلت اليهودي يعيش في حماية “غيتو” لغوي، وتحت مظلة فكر صهيوني عدواني، كمن يعيش في حصن مرتفع يؤثر منه على الغير، ولكنه لا يتأثر بهم، وهي وضعية لم تتوفر لمركز القرار في الجزائر، الذي لم يكن يملك نفس المناعة، ونفس المقدار من حرية الحركة، لأن خصوم الانتماء كانوا بين الصفوف، كما كان الطلقاء يومًا بعد فتح مكة).
ومن هنا أصبح الحلم وهمًا.
ولعلي أتصور أن الرئيس بومدين كان يأمل أن يتفهم خصوم الأمس ضرورة العمل لبناء “عالم ثالث جديد” يضم العالم الثالث المعروف، بالإضافة إلى أوروبا الغربية، يتمكن من أن يكون ضمان التوازن السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والمنظومة الاشتراكية من جهة أخرى، أي لا يكون عالمًا ثنائي الاستقطاب، قد يصبح يومًا وحيد القرن.
كانت حركة عدم الانحياز قد شهدت ديناميكية جديدة في قمة الجزائر الرابعة، التي عقدت في سبتمبر 1973 وترأسها بومدين، حيث برز اهتمام أكثر بالبعد الاقتصادي للحركة، وربما كان للوجود الفعال الذي حققته منظمة الدول المصدرة للنفط أثر في تنامي آمال التمكن من إقامة منظمات أخرى، للحديد وللنحاس وللبوكسيت (الألومنيوم) والفوسفات، وكذلك للقهوة أو الكاكاو، أي لكل المواد الأولية.
وربما أمكن خلق تنسيق بين هذه المنظمات، يجعل منها العمود الفقري الاقتصادي لحركة عدم الانحياز، وهكذا يمكن أن تتكون في العالم المعاصر كتلة سياسية اقتصادية جديدة، يتسّم جناحاها بالتكامل العضوي، حيث المواد الخام واليد العاملة والأسواق في جانب، والخبرة التقنية والطاقة التمويلية في الجانب المقابل، وهو ما يعني أن إمكانات التكامل كانت متوفرة، واحتمالات التنافس الفوضوي لم تكن مطروحة.
وربما كان هناك في الجزائر، بحكم الجغرافيا التي لا يختار فيها المرء جيرانه، وربما تأثرًا بالمثال الفرنسي – الألماني، كان هناك تصور في أن تتمكن كل من الجزائر وفرنسا من إقامة قاعدة من التفهم الذي يقود إلى التفاهم، يمكن أن يجعل من البلدين قطب ذلك الرحى ومحور ذلك النشاط.
كانت الزيارة إذن حدثًا هامًا، حرصت المصالح المعنية، كما هو مألوف في مثل هذه المناسبات، على أن يكون هناك عدد من الرسائل، التي تلتقطها أعين الضيوف ووسائل الإعلام الدولية، تكون مادة للتفكير والدراسة بالنسبة لمراكز صناعة القرار، في الجانب الآخر من المتوسط.
وربما كان من بين الرسائل أن يكون واضحًا بأن الجروح لم تندمل بعد تمامًا، ولهذا فلابد من أخذ مشاعر الشارع الجزائري بعين الاعتبار.
كان من المألوف خلال الزيارات الرسمية التي يقوم بها رؤساء الدول الأجنبية للجزائر أن يتم إعداد أعلام ورقية صغيرة، بمثل كل منها علم الجزائر وعلم بلد الرئيس الزائر، وتوزع على تلاميذ المدارس الذين يلوحون بها وهم يصطفون على جانبي الطريق التي يسلكها الموكب الرسمي، لكن الذي لوحظ في هذه الزيارة بالذات أن التلاميذ كانوا يلوحون بأعلام ورقية ملونة، كل منها ذو لون واحد، ولا ترمز لأي بلد على وجه التحديد، وكان واضحًا أن العملية مقصودة للقول بأن الوقت لم يحن بعد لكي يلوح أبناء الجزائر بالأعلام الفرنسية.
وكان بين الرسائل نوعية السيارة التي استعملت عمدًا لركوب الرئيس الضيف، فالسيارة الرسمية التي تستعمل كانت السيارة الفرنسية من نوع سيتيروين “دي إس″، لكن السيارة التي وضعت تحت تصرف الرئيس الفرنسي كانت سيارة ألمانية من نوع “مرسيدس″، وكانت الإشارة واضحة في أن الجزائر ليست سوقًا مغلقة لأحد.
وبدا الرئيس الفرنسي متعجرفًا منذ اللحظات الأولى لوصوله، وبدا لي شخصيًا وكأنه يقدم نفسه كممثل للجنرال دوغول، “الذي منح الجزائر استقلالها”، حسب الزعم الفرنسي المعروف، والذي يتناقض مع الواقع الذي اعترف به الجنرال في مذكراته.
وكانت أول تصريحات جيسكارد الرسمية في المطار كلمته التي قال فيها “فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة”، هكذا، بكل استخفاف بالتاريخ واستهانة بمعانيه وتجاهل للحقيقة التي تقول بأن الدولة الجزائرية التي عرفها القرن السادس عشر، وهزمت شارل الخامس (شارلكان) عام 1541، كانت أول دولة اعترفت بالجمهورية الفرنسية الأولى، وأقرضت حكومة الثورة آنذاك مبلغ خمسة ملايين من الفرنكات الذهبية (لم تسدد حتى اليوم) وعقدت معها سبعين معاهدة واتفاقية كما روى مولود قاسم في كتابه الرائع.
وطبقًا للبروتوكول، وردًا على العشاء الرسمي الذي أقامه الرئيس بومدين، أقام الرئيس الفرنسي مأدبة عشاء في مقر إقامته بقصر الشعب، وهناك تجلّت قلة الذوق وقصر النظر السياسي بشكل لم يسبق له مثيل، فقد فوجئت بعض الشخصيات الجزائرية المدعوة إلى هذا الحفل بأن البروتوكول الفرنسي، المسؤول عن تنظيم العشاء، جعل مكانهم في الصفوف الخلفية، بينما كان في الصفوف الأمامية جزائريون من مستويات عادية، تمت دعوتهم بحكم ارتباطهم بالسفارة الفرنسية، عائليًا أو اجتماعيًا !..
ولأن القضية لم تكن قضية شخصية بل كانت قضية ترتبط بهيبة الدولة، ركب “الجن” عددًا من المستشارين برئاسة الجمهورية، كان من بينهم المرحومان سليمان هوفمان وإسماعيل حمداني وكذلك الحاج يعلا وكاتب هذه السطور، وقررنا الانسحاب من الحفل، وتمكن مدير التشريفات الجزائرية عبد المجيد علاهم بصعوبة من اقناعنا بعدم مقاطعة الحفل، لكن تأكد يومها أن السفارة الفرنسية تركز في علاقاتها مع الجزائريين على نوعية خاصة من “المتعاطفين” والمتعاملين، بينما تتجاهل كل من تراهم من رجال الانتماء العربي الإسلامي.
ولمجرد العلم، فبرغم أنني ممن يُعتبرون من الإطارات السامية في الجزائر، محافظا سياسيا للبحرية ثم مستشارا لثلاثة رؤساء، ثم رئيسا للجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان، ووزيرا للثقافة وعضوا في مجلس الأمة لأكثر من عشر سنوات، كما أنني كاتب سياسي، غير مجهول في حدود ما أعر، فلم أتلق طوال 50 سنة تقريبا وإلى اليوم أكثر من دعوتين لحضور احتفال السفارة الفرنسية السنوي بثورة يوليو، وذلك بفضل السفير “دو فيرديير”، الذي كان يقول عن بعض الحضور من المعارضين الجزائريين إنهم معارضة “سان جيرمان” (الحي الباريسي المشهور).
ولعل لي عودة لنفس الذكريات.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق