دكتور محيي الدين عميمور
شهدت الساحة العربية، وخصوصا منذ إجهاض ثورة يناير 2011 في مصر نتيجة لثورة مضادة قامت بها قيادة الجيش، تصاعد التنديد بالقوات المسلحة الوطنية واعتبارها وراء كل فساد وإفساد، وهو ما أرى أنه خطأ فادح تدفع الحركة الوطنية ثمنه.
وأعترف أنني أسبح ضد التيار عندما خصصت جانبا من أحاديثي لأحذر من مواصلة الخلط بين الجيش الوطني وبين العناصر المخابراتية التي تستعمل القوات المسلحة كعصا للقمع والترهيب، وبين هذه وبعض قياداتها التي أرادت للجيش عقيدة قتالية استهلاكية متناقضة مع عقيدة أي جيش وطني، وشرحتُ الفرق بين كلمة “الجيش” النبيلة وتعبير “العسْكر” القدْحيّ.
وكنت وما زلت أرى أن تنامي الكراهية بين الجماهير وطلائعها المثقفة من جهة والجيش الوطني من جهة أخرى هو أمرٌ يحرم الشارع من القوة الأساسية التي يمكن أن تحميه في لحظة ما من تجاوزات السلطة، ويجعل من حُماة الشعب زبانية يُمارسون القمع ضده باقتناع كامل بأنهم يحمون الوطن، وهي كارثة كبرى، تخلق العداوة بين المواطن وبين كل من يرتدي الزي العسكري، في حين أنه ابنه أو أخوه أو قريبه، وتتحول العداوة إلى نوع من الحقد الشعبي بفضل الحوافز المالية التي يستفيد منها العسكريون بما يُشبه الرشوة المقنعة، والتي تحقق نتيجة مزدوجة، إذ يشعر العسكريون بأن أهاليهم يغارون منهم.
وقلت بأنني أريد أن تستعيد كلمة “الجيش” بريقها الوطني الذي أضاعته مصالح الأمن السياسي والقيادات المنحرفة، ولعل كثيرين لاحظوا كيف أن بعض القيادات العسكرية العليا، يحيط بها، وهي بالزي الرسمي القتالي في التجمعات الاحتفالية، رجال أمنٍ بالملابس المدنية، ولعلهم عسكريون أساسا، ولكن مجرد استعمال هؤلاء للزيّ المدني يوحي بأنهم يرون أنفسهم شريحة مختلفة عن بقية “العساكر”.
وتلقيت العديد من التساؤلات، حمل بعضها الكثير من التشكيك بتأثير الحملات المتواصلة ضد الدور السلبي للجيش في الوطن العربي، كما كانت هناك أسئلة حول دور الضباط الجزائريين الذين فروا من الجيش الفرنسي وانضموا إلى قوات الثورة ضد الاستعمار الفرنسي.
وأحسست بالتالي أن من واجبي، وخصوصا تجاه الأشقاء في المشرق، أن أخصص هذا الحديث لشرح ما أتصور غموضه فيما يتعلق بهذه القضية.
وبداية لا بد من التوضيح أن الجزائر، وعلى عكس الكثير من البلدان التي انتزعت استقلالها، لم ترث جيشا جاهزا كان قائما خلال المرحلة الاستعمارية كما هو الحال في الهند على وجه المثال، بل كان جيشها هو نفس جيش التحرير الوطني الذي واجه الاستعمار، وتحول بالاستقلال على يد العقيد هواري بو مدين إلى الجيش الوطني الشعبي، وهو ما يعني أن العقيدة القتالية للجيش الجزائري لم تتغير منذ 1954.
وكان المنطلق الثوري آنذاك يصف كلّ المجاهدين بأنهم مناضلون، يلبس بعضهم الملابس المدنية بينما يلبس البعض الآخر الزيّ العسكري، ومن هنا نكتشف أن محاولة الفرز التي برزت في مؤتمر الصومام عام 1956 كان فيها الكثير من الخلط الذي رآه كثيرون مجرد محاولة طموحة للتخلص من القيادات الرائدة للثورة.
ولعل الكاتب الفرنسي “بول بالطا” كان ممن نجحوا في فهم الرئيس الجزائري، فهو يعلق قائلا عن بو مدين بأن: “اليمين واليسار يُهملان وظائفه السياسية ويصرون على استعمال رتبته العسكرية، وكأنه متخرج من إحدى الأكاديميات الحربية، أو كأن جيش التحرير كان جيشا من المحترفين وليس جيشا من الفلاحين والمناضلين تجمعوا لخوض حرب تحرير اتخذت طابعا ثوريا”.
هنا نكتشف خطأ التعبير الذي استعمله البعض في تناول الواقع الجزائري وهو أن كل قادة الجزائر المستقلة هم صنيعة الجيش، فالواقع أنهم كانوا جميعا نتاج الثورة المسلحة، ويمكن أن يُقال، ببعض التجاوز اللفظي، أنهم هم …الجيش.
وهكذا فإن الجيش في الجزائر ليس مجرد تجمّع للابسي “بزات” عسكرية برز إلى الوجود بعد استرجاع الاستقلال كما كان يريد دعاة حلّ جيش التحرير وتكوين جيش من “القوات المحلية”، بل هو القوة الوطنية المنظمة التي تتوفر على وحدة القيادة ووضوح الهدف وتناسق الجهود، بجانب الانضباط الذي هو أساس البناء السليم للدولة، والذي حال دون انزلاق اللامركزية التي عرفتها الثورة إلى تفتت للدولة الناشئة، بتأثير بعض من حاولوا تحويل الولايات التاريخية إلى شبه دويلات، واستعملوا تعبير “جيش الحدود” بخلفيات قدحية، لعل أشرفها تصفية حسابات سياسية، وأسخفها الترديد الساذج للمقولات الفرنسية.
ولهذا حرص بو مدين، وهو يُكوّن الجيش الوطني بعد استرجاع الاستقلال، أن يحدد مهمته بحيث يكون دوره السياسي علنيا وواضحا ومحددا في الزمان والمكان، واختار له اسم “الجيش الوطني الشعبي”، ليكون، بجانب مهمته الأساسية في الدفاع عن الوطن، مساهما نشطا في عملية التنمية الوطنية، وكانت قياداته العليا تشترك، في كل الاجتماعات والمناسبات السياسية الوطنية والمحلية، بملابسها الرسمية، لأنه أُريدَ ألاّ يكون دورها سريا بما يجعله يبدو تآمريا بشكل ما، وهكذا كان خُمس (5/1) أعضاء القيادة السياسية العليا التي يمثلها حزب جبهة التحرير الوطني من ضباط القوات المسلحة، وكانوا يشاركون في اللقاءات الوطنية والحزبية بملابسهم العسكرية.
وللتذكير، فقد اختار بو مدين للملابس العسكرية اللون الرمادي وليس اللون الكاكي، الذي يرتبط في ذهن جيل الثورة وبدايات الاستقلال بلون ملابس الجيش الاستعماري، وكان منطلقه الرئيسي أن دور الجيش الوطني هو أن يكون حاميا للوطن وللدولة لا لنظام الحكم أو للقيادة، وجزءا فاعلا في عملية التنمية الوطنية، وسنلاحظ هنا أن الطاقة البشرية للجيش مكونة من كل أبناء الوطن وليست مقصورة على شريحة معينة تنتمي لمنطقة معينة كما حدث في بعض البلدان، وكانت السبب في مآس كثيرة.
وكان قائد القطاع العسكري في كل ولاية، من الولايات الـ31 ثم الـ48 ، واحدا من المجموعة الرباعية التي يقودها والي الولاية وتضم المحافظ الوطني للحزب ورئيس المجلس الشعبي الولائي
وكان عدد الذين عُيّنوا من العسكريين في مناصب مدنية في مرحلة وظروف معينة ومؤقتة محدودا وتناقص مع مرور الزمن، ولم يكن مبرّرُ تعيينهم أنهم عسكريون، بل لأنهم مجاهدون أولا وقبل كل شيء.
وأنا أتصور أن بو مدين، الذي كان من خبراء التوازن في كل المجالات وليس بمنظور التنمية الوطنية لمختلف مناطق البلاد فحسب، كان يدرك بأن التوازن بين القيادة السياسية والقوة العسكرية والتكامل بينهما ضرورة حيوية لقيام الدولة وللحفاظ عليها ولحسن سير مؤسسات الجمهورية، وكان على يقين من أن عسْكرة الدولة، بمعنى إدارتها بواسطة المؤسسة العسكرية، هو خطر على القوات المسلحة نفسها لأنه يدخلها في اللعبة السياسية ويصرفها عن مهمتها الأساسية، وقد يفسد وضعية الانضباط الحيوية بالنسبة للجيش، ولا يضمن في الوقت نفسه بناء الدولة على أساس سليم، لأن المقاييس ستعتمد غالبا على الولاء لا على الكفاءة، وعلى التنفيذ بدون مناقشة قبلية أو بعدية، وكان المثل التركي، حيث سيطر الجيش على نظام الحكم عبر انقلابات متتالية، واضحا أمام ناظريه، وكان انهيار تركيا وانحرافها عن مسيرتها التاريخية كبلد مسلم من الأمثلة التي لا يمكن تجاهلها، وكان الأمر كذلك في اليونان، والتي عرفت جماهيرنا صورة لمعاناتها تحت حكم العسكر من خلال فيلم “زِدْ”، الذي صُوّر في العاصمة الجزائرية، وكان المهم عنده هو كيف يُتخذ القرار السياسي، ومن يتخذه، ومن يُعدّ معطيات القرار ويسهر على تنفيذه، وبالطبع، فأنا أتحدث عن المرحلة التي عشتها إلى جانب الرئيس بو مدين ثم الرئيس الشاذلي بن جديد في ولايته الأولى.
لكن هذا تغير للأسف خلال مرحلة مأساوية انطلقت بتشجيع تظاهرات شعبية انطلقت سلمية وهادئة ثم وقعت في شراك عملية جهنمية كان من نتيجتها سقوط جزائريين برصاص جزائريين، وانطلقت بذلك عشرية دموية دفعت فيها البلاد ثمنا رهيبا من الضحايا ومن الخسائر المادية بل والاجتماعية والأخلاقية.
ولعل هذا في حد ذاته ما يفسر رزانة المؤسسة العسكرية اليوم في التعامل مع التطورات التي تعيشها البلاد بفضل الحراك الشعبي الذي أسقط رئيس الجمهورية، وحرصها على ألا تستجيب للمطالبات المغرضة، التي تتخذ من سخط الجماهير على القيادات السياسية المرتبطة بعهد الرئيس بو تفليقة، بالخروج، مرة أخرى، على نصوص الدستور الجزائري.
أصل هنا إلى قضية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، أو من أطلق عليهم DAF أي (Déserteurs de l’Armée Française) وهي تسمية أطلقت على الجزائريين الذين كانوا مجندين بشكل دائم وعن طواعية داخل وحدات الجيش الفرنسي خلال فترة الاحتلال، ولا يُقصد بهم الجزائريون الذين قضوا فترة الخدمة العسكرية الإجبارية في صفوف الجيش الفرنسي على غرار أحمد بن بله وآخرين.
ولأن الجزائر كانت تعتبر، خلال المرحلة الاستعمارية، قطعة من فرنسا، كانت السلطة الفرنسية تشجع وجود بعض الجزائريين في قواتها المسلحة، ولأهداف ليس منها حب سواد العيون الجزائرية.
لكن قيام الثورة وضع هؤلاء الضباط وصفّ الضباط أمام أزمة ضمير، فراح عدد منهم ينسلون تباعا من الجيش الفرنسي لينضموا إلى جيش التحرير الوطني على فترات بعد منتصف الخمسينيات.
ويقول قائد الأركان الأسبق المجاهد العقيد طاهر زبيري في مذكراته (وهو لم يكن من الفارين): “عُرف الضباط الفارون بمستواهم العسكري النظامي، سواء من حيث التدريب أو من حيث الانضباط (..) وسعى جيش التحرير خلال الثورة إلى استقطاب الضباط والجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي إلى صفوفه (..) وخلال قيادتي لأركان الجيش الوطني الشعبي (1963-1967) كان مجموع هؤلاء بجميع رتبهم نحو 200 ضابط وضابط صف (..) لكنني كنت أرفض من حيث المبدأ أن يتولى أولئك الضباط مناصب قيادية حساسة في الجيش (..) وهذا ما كان يوافقني فيه وزير الدفاع العقيد بو مدين، الذي سعى إلى إحداث التوازن بين الضباط الفارين من الجيش الفرنسي وقدماء ضباط جيش التحرير في المناصب والمسؤوليات وكان قادة النواحي العسكرية كلهم، كما يؤكد العقيد زبيري، من قدماء ضباط جيش التحرير”.
وما يقوله سي الطاهر هنا أكدته مراجع كثيرة، وبرغم أن هناك من يصرون، بخلفية قدْحية، على أن ينسبوا للعقيد بو مدين مسؤولية إدماح الضباط الفارين في الجيش، ليحملوه مسؤولية انحرافات حدثت فيما بعد على يدِ بعضهم، فلا بدّ من التذكير بأن التحاق هؤلاء بالجيش خلال الثورة بدأ في 1956 على يد كريم بلقاسم، وزير الدفاع، وفي مرحلة لم يكن بو مدين يتولّى فيها أي مسؤولية قيادية مؤثرة على الأحداث.
وكان من أول الفارين الرائد (الكومندان) إيدير، الذي عينه كريم آنذاك مديرا لديوانه، ثم أسند له قيادة الحملة الصحراوية في 1957، وكنت يومها واحدا من أصغر ضباطه، وفشلت الحملة لأن إيدير، بتكوينه العسكري الروتيني، كان بعيدا عن فهم أسلوب الحرب التي تميزت بها الثورة الجزائرية.
وفي حين كلف بو مدين بالمخابرات العسكرية وبالتوجيه السياسي للجيش ضابطين لم يعرفا الجيش الفرنسي وهما قاصدي مرباح والهاشمي حجريس، تماما كقادة النواحي العسكرية، فقد استعمل خيرة الضباط الذين كانوا في الجيش الفرنسي لتنظيم الجيش العصري، فكلف سعيد آيت مسعودان بالقوات الجوية وخالد نزار بتكوين فرقة المظليين وآخرين بمهام تنظيمية، بدون أن تكون لهم سلطة القرارات العليا.
ولعلي أروي هنا قصة تبرز خلفية بومدين في التعامل مع هؤلاء الضباط، حدثت بعد سقوط الطائرة التي قضى فيها العقيد عبد القادر شابو وبعض زملائه في أبريل 1971، حيث دفنوا، في فورة الحزن العام الشديد على الحادث الأول من نوعه، في مكان متميز بمقبرة العالية يُطلق عليه مربع الشهداء، وعلى وجه التحديد، في المكان الذي دُفن فيه فيما بعد الرؤساء بن بله والشاذلي بن جديد وعلي كافي، أي في مواجهة ضريح الأمير عبد القادر.
وفي يوليو من العام التالي توجهت إلى المقبرة للمساهمة في إعداد وقفة الترحم المألوفة في إطار الاحتفالات الرسمية باسترجاع الاستقلال، وفوجئت بعمالٍ يحفرون قبور الضباط، فاتصلت فورا بالأمين العام لرئاسة الجمهورية الدكتور محمد أمير لأتساءل عن الأمر، وعرفت منه أن الرئيس أمر بنقل الرفات خارج إطار مربع الشهداء، ليدفنوا مع إطارات الدولة في الجانب الآخر من المقبرة.
وأدركتُ يومها أن بو مدين كان يعرف تماما كيف يُقيّم الرجال، وكيف يفرق بين الأمير عبد القادر وقادة الثورة والسابقين الأولين وبين غيرهم من العاملين في خدمة الدولة، ولكل حقه وقدره ومكانته.
لكن لا بد من الاعتراف بأن وجود أولئك الضباط على الساحة كان دائما مترابطا متحدا منسجم التوجهات ومتمرسا في فنون الصراع بكل أنواعها، وكان يتميز بإحساسه الدائم بردود الفعل السلبية من الضباط المجاهدين الأولين، وبولائه الواضح والمتجدد للقيادة السياسية، وسنلاحظ عبر المسيرة كلها أن من دفع ثمن الصراعات كان من المجاهدين المنتمين لما يسمّى التيار الوطني العروبي، ممن كانوا يعتزون بجهادهم ويتشبثون بمواقفَ وآراء يرونها حقا، ومن هنا وقع معظمهم ضحية لاستفزازات أتصوّر أنها كانت مقصودة، ومن بينهم محمد شعباني وطاهر زبيري.
ولعلي أقول بهذه المناسبة أن كثيرين ممن يركزون على مسؤولية أولئك الضباط في ما عانته الجزائر في مراحل معينة بعد وفاة الرئيس بو مدين، يتعمدون ذلك للتعتيم على دور “المدنيين” الذين تسربوا إلى جهازنا الوظيفي ممن كونتهم الإدارة الفرنسية، عندما اضطر نقص الإطارات الدولة إلى الاستعانة بكل من وجدتهم أمامها، ومن بينهم جماعة “دفعة لاكوست”، وكثير منهم كان لهم دور في إجهاض إنجازات كثيرة، أشرت لبعضها.
ويبقى أن آخر الضباط الفارين في الخدمة كان الفريق محمد مدين مدير المخابرات، الذي أحيل إلى التقاعد منذ عدة سنوات، بعد قائد الأركان الفريق محمد العماري.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق