دكتورمحيي الدين عميمور
لا أعرف مرحلة عاشت فيها السلطة الجزائرية عزلة رهيبة كهذه التي تعيشها اليوم، وهي تتعرض لعملية رجم شرسة تجاوز عنفها ما تتعرض له زانية مع ابنها في يوم من أيام رمضان.
ويتحالف ضد السلطة من لا يفرق بين السلطة والنظام، ومن أضير يوما في حق من حقوقه أو خيّل له ذلك، ومن تغلي في نفسه طموحات كانت مجرد أطماع لم يستطع تحقيقها، ويضاف إلى ذلك عمليات تشويه مقصودة تقف وراءها اتجاهات إيديولوجية وأفكار كولونيالية وانطباعات خاطئة.
ولست أعني بهذا تبرئة نظام الحكم في الجزائر من الأخطاء والانحرافات، فقد ارتكب العديد من الانحرافات وبعضها كان بتواطئ من يهاجمونه اليوم ويرتدون مسوح الأطهار.
لكنني أعتقد أن هذه الهجمة الشرسة تفتقد كل ضوابط التوازن والعدالة في التعامل مع شؤون الدولة واحتياجات المجتمع، وتخلط، بوجه خاص، بين كل المراحل التي عاشتها جزائر الاستقلال، وبحيث أصبحنا اليوم نسمع من يدين كل ما عرفته الجزائر منذ 1962.
وأنا أعرف بأن هناك مراحل من حياة الأمم والشعوب قد يكون من أسباب تألق البعض فيها جهوريّة الصوت والقدرة على المراوغة البلاغية واتهام السلطة بكل ما هو سيئ وقبيح، بقدر ما يمكن أن تستفز كره الشارع وغضبه كلمة خير يقولها إنسان، إيمانا واحتسابا، في حق من تتهاطل عليهم حجارة الرجم ولعنات الجماهير، ومن يرفض النظرة السلبية التي تلوث صورة الجزائر، ثورة ومسيرة وطنية ومواقف نضالية، عند أشقاء كثيرين قد لا تتوفر لديهم معطيات الحقيقة في أرض الواقع.
استثار كل هذا في نفسي مقطع جاء في “الفيس بوك” أول أمس، قدم فيه ناشره فقرة من خطبة للرئيس الجزائري الراحل، هواري بو مدين، جاء فيها حديث عن منطقة القبائل تقول بأنها “تتميز بالتعصب وبالانغلاق وبالعداء للمنطلقات الوطنية”.
كانت هي فعلا كلمات الرئيس، بالصوت وبالصورة، وعلق عليها من كان واضحا أنه من خصومه الألداء ليندد بمزاعم عنصرية الرئيس الراحل وادعاء كرهه للقبائل (المنتمين للمنطقة الوسطى من الشمال الجزائري ويكونون التجمع الكبير الثاني للمتحدثين بالأمازيغية، والتجمع الأكبر هو الشاوية في الشرق الجزائري ومنه برزت أهم الزعامات التاريخية مثل يوغورطة 140 ق.م. وتاكفاريناس 24 م.) وليقول بأن كل مآسي الجزائر الحالية هي من صنع يديه ومن نتائج سياسته.
وقبل أن أتناول صلب الموضوع أتوقف لحظات عند الحكم الأخير للمعلق لأقول بأن بو مدين مات منذ أكثر من أربعين سنة، وبأن أردوغان نجح في تصحيح مسيرة تركيا في أقل من عشر سنوات على توليه الحكم، ونفس الأمر نجح فيه مهاتير في ماليزيا، بدون التوقف عند سنغافورة وكوريا الجنوبية.
وبغض النظر عن أن ما تعيشه الجزائر حاليا من أزمات لا ينفي ما تم تحقيقه من إنجازات هائلة طوال حكم الرؤساء الذين تتابعوا على قيادة الجزائر، ابتداء من الرئيس الأول أحمد بن بله، وحتى خلال السنوات الأولى من حكم الرئيس عبد العزيز بو تفليقة، وقد أعود لهذا الأمر من بعد، فإن عملية التشويش التي تقوم بها بعض العناصر على مسيرة استقلال الجزائر تفرض التوقف لتوضيح الأمور، حتى لا يُخدع المواطن بمعلومات مشوهة هدفها الرئيسي تدمير معنوياته وإفقاده الثقة بماضيه ليفقد العزيمة في حاضره والأمل في مستقبله، وحتى لا نفقد حب الأشقاء والاحترام الذي يستحقه بلد الشهداء وكعبة المناضلين.
ولأن الأمر يتعلق اليوم بثاني رؤساء الاستقلال أذكر بأن أول خطوات الرئيس بو مدين إثر توليه قيادة البلاد في منتصف الستينيات كانت، وبجانب البرنامج الوطني للتنمية، إقرار برنامج إضافي خاص لتنمية منطقتين، عرفتا بسوء أحوالهما المعيشية بفضل الظلم الاستعماري، وهما منطقة الصحراء ومنطقة القبائل، والتي كان المؤرخ الجزائري يطلق عليها في كتابه بالفرنسية (FLN. Mirage et réalité) تعبير ملاذ البؤس (Le sanctuaire de la pauvreté).
وعندما نتابع مسيرة بو مدين ونطالع قائمة رفاقه ومساعديه نجد فيهم عددا كبيرا من أبناء منطقة القبائل، فعلى رأس أهم المصالح في المؤسسة العسكرية، وهي العمود الفقري للجزائر، نجد أن مدير المخابرات العسكرية قاصدي مرباح، هو من منطقة القبائل، مثله مثل مدير الخدمات الاجتماعية في الجيش عبد المجيد آوشيش، ومدير المحافظة السياسية الهاشمي حجريس، والقائد العام للطيران الحربي سعيد آيت مسعودان، وقائد المدرعات سليم سعدي، ومدير الهندسة العسكرية رشيد ميدون، وقائد الصاعقة خالد نزار، ومدير مدرسة أشبال الثورة عبد الحميد جوادي، ونجد من بين الوزراء في مراحل مختلفة المجاهد المعروف محمد السعيد معزوزي ووزير المالية إسماعيل محروق، وهو قبائلي مسيحي رغم قلة عدد المسيحيين في الجزائر، كما نجد وزير التجارة العياشي ياكر، ووزير العمل مولود أومزيان، ووزيري الشؤون الدينية العربي سعدوني ثم مولود قاسم، ووزير أكثر من وزارة بوعلام بن حمودة، ونجد نفس التعيينات في مختلف مصالح الدولة وولاياتها ودوائها وإداراتها وشركاتها الوطنية ومؤسساتها الكبرى مثل الخطوط الجوية وبعثاتها الديبلوماسية في الخارج.
ولعلي أضيف بأن السائق الشخصي للرئيس بو مدين ومحل أسراره هو عمي الطيب، أو الهاشمي، وهو أيضا من منطقة القبائل، كبعض عناصر الأمن الرئاسي الخاص ومن بينهم رقم (2) الصادق آيت مصباح.
والذي حدث هو أن القيادة الجزائرية، وسواء في عهد بن بله أو بو مدين أو الشاذلي بن جديد أو اليمين زروال لم تكن تجعل من الانتماء الجغرافي مسوغا للتعيين في أي وظيفة أو مبررا للإقصاء منها.
وأعترف بأن هذا اختل في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بو تفليقة، وهو ما ليس مبررا على الإطلاق لما نعيشه من تهجم على مسيرة جزائر الاستقلال، وخصوصا ممن كانوا أكثر من استفاد منها، مباشرة أو عبر استغلال بعض ثغرات برامج التنمية فيها، بل وأحيانا بالابتزاز.
ويبقى السؤال الأهم، وهو لماذا يكون الرئيس بو مدين من أكثر الذين يستهدفهم العداء، وسواء من اليمين الإسلامي المتطرف، أو بعض شرائحه التي تدعي الاعتدال، أو من اليسار اللائكي الذي يطلق عليه الاتجاه الفرانكولائكي، بل إن كل من يتبنى طرح بومدين أو يحاول مجرد الدفاع عن مواقفه يتعرض لنفس العداء، ويُحاصر في كل تحركاته السياسية والاجتماعية.
والإجابة نجدها في تمسك بو مدين بالانتماء العربي الإسلامي، وحرصه على الوحدة الوطنية وجذورها الثورية، ورفضه لأي صراع طبقي مع الحرص على رعاية وتنمية الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى مواقفه الدولية المعروفة التي ترى أن الصراع هو بين الشمال والجنوب، وضرورة إصلاح النظام الاقتصادي الدولي، بجانب نظرته الوحدوية للعلاقات الإقليمية، وخصوصا في منطقة المغرب العربي.
ولعل أكثر ما كان يزعج كثيرين قوله في أكثر من مناسبة إنه “ليس مدينا لفرنسا بأي شيئ”.
وما حدث هو أن بو مدين كان وما يزال لغزا غامضا بالنسبة للمصالح الفرنسية، التي تعرف الكثير عن كل القيادات التي عرفت التكوين الفرنسي، أو كانت جزءا، بشكل أو بآخر، من الإدارة الفرنسية، العسكرية أو المدنية.
ويروي الصحفي المصري الفرنسي بول بالطا أن الرئيس الفرنسي الجنرال شارل دوغول طلب من المصالح الأمنية الفرنسية في بداية الستينيات، وعلى مشارف استقلال الجزائر، قائمة بأسماء القيادات الجزائرية، مع تسجيل ملاحظات أمام كل اسم تُبينُ أهمية صاحبه وإمكانيات التعامل معه في المستقبل.
وأعدت المخابرات القائمة، وجاء أمام اسم هواري بو مدين: “ضابط غامض لا مستقبل له”.
ويقول بالطا إن دوغول، وطبقا لما سمعه منه شخصيا، كتب أمام التعليق بخط يده ما معناه : استنتاج خاطئ، يُراجع″، وربما كان هذا هو ما جعل خصم بو مدين اللدود الرئيس “جيسكار ديستان” يقول مؤخرا في تصريح صحفي فوجئ به عندنا كثيرون: “لن تستطيع الجزائر تعويض رئيس بحجم بو مدين”.
وسنجد من مواقف بو مدين، التي جرّت عليه عداوات كثيرة رفضه لاحتكار أي شريحة بشرية لأيٍ من معطيات الهوية الجزائرية، فهو يرفض أن تحتكر مجموعة حق الانتماء للعمق الجزائري النوميدي أو الأمازيغي، وترى نفسها أكثر أصالة من “هؤلاء الأعراب الذين جاءونا من الشرق”، ومن بين مزاعمها ما جاء على لسان إحدى الثدييات مؤخرا، والتي قالت: “العرب الذين جاءونا برسالة الإسلام عليهم أن يتصرفوا كساعي البريد، الذي يُسلم الرسالة ثم يعود من حيث أتى !! وهو، بجانب منطقه الغبي، يتجاهل أن العرب ليسو فقط أهل منطقة الحجاز أو الجزيرة العربية وحدها.
ومن نفس المنطلق كان بو مدين يرفض أن يعطي أيٌّ لنفسه حق تكفير الآخرين أو تجسيد الدين في نفسه أو في جماعته، أو كوسيلة للدفاع عن الرأسمالية الطفيلية انطلاقا من تفسير مشوه لقوله تعالى: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق”، وكأن الرزق لا يكون إلا في المال والجاه وليس أيضا في الصحة والحكمة والبنين وما إلى ذلك.
وكان رفض بو مدين أداء “العمرة” خلال إحدى زياراته السياسية للمملكة العربية السعودية سببا في اتهامه بإهمال واجب ديني، في حين أنني رويت ما قاله لي شخصيا وأنا أحاول إثناءه عن موقفه : “القاعدة هي النية، وأنا جئت هنا لأقوم بعمل سياسي، ومن يريد العمرة عليه أن يؤديها بماله الخاص” (وفهمت أنه لم يكن يريد لكرم الضيافة أن يؤثر في صلابة موقفه فيما يتعلق بأسعار النفط، وهو ما كنت رويته بالتفصيل الممل، مذكرا برد فعل الدكتور اليماني في حضرة الملك خالد)
هذه، باختصار شديد، سطور آمل أن تساعد كثرين على فهم بعض ما تعيشه الجزائر اليوم.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق