السلطة تغتال السياسة!!

ثلاثاء, 03/12/2019 - 16:52

موسى لبات /مصور تلفزيوني ومدون

لمتابع والمهتم بالأحداث الأخيرة .. لايمكن أن يغيب عنه ما حصل على مستوى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية.. وكيف جرد من محتواه السياسي بعد منح زعامته لنخب تكنوقراط وتغييب العمل السياسي داخل الحزب ومصادرته من ممتهنيه .
لجنة لتسيير حزب سياسي تتكون في مجملها من الفنيين والتقنيين ويزداد الأمر بلادة بوجود بعض الأطباء وخبراء الصناعة ممن لا علاقة لهم بفن الممكن، إنها السلطة حين تتصرف وحين تضيق ذرعا وتريد أن تسير في الظلام دون ضوء كاشف .. معزولة في خياراتها نائية عن ضجيج الساسة.
الوعي السياسي ـــ حتى لا أقول الخبرة السياسية ـــ أمر مطلوب لإدارة الأحزاب .. خصوصا عندما يكون الحزب حاكما ويراد له أن يبقى كذلك .. دون شك حزب الاتحاد اليوم فقد متعته وإثارته وفقد القدرة على أن يستمر واجهة سياسية..تماما كما فقدت مصر الزخم في مشهدها السياسي وغاب الاهتمام بالسياسة عن الشارع المصري، يوم تصدر الفعل السياسي الأطباء وأساتذة الفيزياء وخبراء الطاقة والذرة، وتماما كما حصل في المغرب حين غاب عن العمل السياسي عبد الرحمن اليوسفي ومحمد اليازغي وأنظارهم من السياسيين وسلمت قيادة الأحزاب والعمل السياسي لخبراء الاقتصاد وأساتذة الكيمياء ... الأمثلة كثيرة من دول عربية وغربية ..
أتذكر خطاب ولد محم الماتع في فعاليات افتتاح مهرجان المدن القديمة النسخة الماضية عندما تحدث قائلا : "ولاتة يا سيدي الرئيس هي بيتكم الذي أرادت له الأنظمة السابقة أن يكون سجنا .. ومنتبذا عقابيا قصيا، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود.. " .. وأذكر يوم تجاوز ولد محم المغرب وعبر إلى جنوب الجزيرة الأيبيرية.. ووقف في سهل الزلاقة .. أيام معدودة بعد ذلك ويحضر رئيس الحكومة المغربية لبادية تيرس معتذرا، ويغادر سعيد شباط التاريخ المغربي جريحا لا يحمل غير مفاتيح بيت ريفي في ضواحي فاس.. إنها القدرة على توظيف كل الإمكانات وإتقان اللعب، وهو لعمري أمرٌ من السياسة والحكمة بمكان.
السياسة فن راقٍ له متعته .. وهي في الوقت نفسه علم له مجاله الخاص، وفضاء واسع يشتبك فيه مع مختلف العلوم، يحتاج للدراسة والبحث والاهتمام، والمتداول عن ولد محم أنه يعيش بشقة مؤجرة تعج بالكتب والمؤلفات في علم السياسة، ويصعب أن تلتقيه دون أن يُسلط الضوء على جديد الإصدارات السياسية والفكرية.. ويظهر الأمر جليا في غالب خرجاته الإعلامية.. وهنا نقطة قوة حيث تندر القراءة عند السياسيين في الوطن العربي بشكل عام.. ومحليا تكاد تحسب من الخوارق.
لا شك أن ولد محم من الماهرين في السياسة ومن القلة القادرين على مواكبة أي حدث سياسي، ولا شك أن مغادرته لحزب الاتحاد ستترك فراغا بحجمه.. لكن الفراغ الفعلي هو تولي لجنة من "التكنوقراط " تسيير الحزب قبل الحدث السياسي الأهم ــ الانتخابات الرئاسية ــ بشهور قليلة، وهو حتما ما سيؤدي بالحزب للتراجع .. و يعطي قوة مضاعفة للخطابات المنافسة التي لن تَلقي بعد الآن مستوى التفكيك والتشخيص الذي كانت تلقاه في عهد ولد محم.. كتب أحد الصحفيين متسائلا: "هل تملأ لجنة العشرين مقعد الرئيس الشاغر؟" وأضيف: هل يمكن لهم مجتمعين الصمود لساعتين مع عشرات الصحفيين لتبرير موقف أو تفنيد آخر واستقبال الأسئلة التي تبحث في نقاط الضعف وتقتنصها.؟ أذكر العشاء الذي نظمه ولد محم قبل أسابيع مع مئات الصحفيين واستمر أكثر من 5 ساعات ولم يترك سؤالا واحدا دون جواب.
التكنوقراط عندما يلجون عالم السياسة يكون وزنهم خفيفا جداً ويفْرطون في السرعة، والسياسة لا تحب الخفة والتسرع .. ويتعاملون مع التفاصيل بلغة الأرقام وهو منطق رياضي ساذج على الأقل في السياسة والاجتماع.
غادر ولد محم زعامة حزب الاتحاد، وفقدت السياسة على مستوى الحزب الحاكم الرجل الذي منحها نكهة ومذاقا مختلفا عن بيروقراطية السلطة وتجهم وجوه كبار الموظفين المكلفين بترتيب الناس وترقيمهم في سجلات انتخابية، غادر الرجل بعد سنوات حافلة من الحضور والزخم السياسي حوصر خلالها من كل مكان ولم يكسره الحصار، حورب ولم تهزمه المعارك.
غادر الرجل والعزاء لنا نحن معشر الإعلاميين في ضياع متعة الحوار والنقاش مع سياسي بارع يملك أعلى مهارات الإعلامي وأعمق تقديرات المفكر والسياسي وأرقى أساليب الأديب، وكما كانت جمله وتصريحاته عناوين بارزة للإعلام والصحافة طوال السنوات الماضية، ستبقى أيضا عنوانا لحقبة من الزمن السياسي بغض النظر عن الموقف منها ومن تبريراته وحتى من منطلقاته.

الفيديو

تابعونا على الفيس