د. علي الباشا
تعاظمت خيبة القوى المعادية في الصدمة الأولى ، والسياسة ُسجالٌ كما هي الحرب ، بمعنى عجزت عن فرض واقع جديد على الخارطة السورية بالوسائل الحربية والتخريبية رغم استعمالها كافة السبل السياسية والعسكرية ونحوها على الأرض . وفي علم النفس العميق ، وهو ليس تنبؤاً، يمتنع المستكبر عن قبول الحق ليلازم في سلوكه جانباً آخراً معللاً ذلك بالمناورة ، وهو إقرار ضمني بالهزيمة ، وتبدَّى ذلك واضحاً في مواقف الدول الغربية التي باتت تطرق ، بخجل، باب دمشق ومضى معها الموقف التركي والعربي ، وقد لا يكون آخر هذه المواقف ، مشهد التشبّب السعودي في الجانب السوري الذي حضر ، لأول مرة منذ ثماني سنوات ، اجتماعات البرلمان العربي المنعقدة في عمّان بتاريخ 3/3/2019 .
لكن ، لا تزال مَلزَمة المناورة مصاحبة للسياسة المبطّنة التي وجدت دَيْدَناً آخراً يتمثل في ” الحل السياسي ” والذي برأيهم قد يفتت سورية بطريقة أكثرمشروعية ، واعتبرته ، في الوقت الحالي، رهانها الوحيد ، ورأت أنّه أيْ هذا الحل ” السياسي” يبدأ في إعادة كتابة الدستورالسوري ، وعلى الرغم من أنّ الدستور السوري لم يجفو عن حقوق المواطنين السوريين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، لكن جوهر المسألة لا يكمن في الحرص على الأقليات السورية والتي هي ، بالأصل، تتمع بكامل حقوق المواطنة ، إنَّما الغاية هي تقليص السلطات الرئاسية.
إلى ذلك ، أبدت الإدارة الأمريكية و الإدارات الغربية مرفودة ببعض التوابع العربية الإهتمام بهذه المراجعة الدستورية معتمدةً على رؤى انفصالية ضيقة طرحتها نخب قاصرة. في هذا السياق، وليس كما كل الوقائع ، تموضع التعبيرالروسي في منتصف المفارقة. ولأنَّ كعب سوريا ما زال عالياً ، بدأ التراجع الغربي بخطوات عملية ، عبّرت عنه فرنسا المستكلبة على سورية في اقتراح إلغاء اللجنة الدستورية ” المطروحة ” والتي لم تنطلق أصلاً ، وتواصلت مع موسكو في هذا الشأن محاولة لعب دور الوصي النزيه.
***
لا نقول أنّ ذلك قد نجح إلى النهاية ، مع أنّ معظم السوريين يدركون أنّ الغرب ومن معه قد استنفذ كامل فرصه ، رغم تسويقه لفكرة النظام البرلماني – كما في العراق مثلاً- على أنها تلاقي قبولاً واسعاً في الدول النامية ، وهي فكرة مخادعة خاصةَ وأن دول المشرق العربي غير مستعدة شعبياً لهذا الشكل الخائب ، والاستياء بادٍ بوضوح في التجربة العراقية ، وما تحوّل تركيا أيضاً من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي و توسيع سلطات الرئيس إلا دليلاً حياً على فشل الأنظمة البرلمانية في الشرق الأوسط ، ناهيكم عن تأصيل الحكم الرئاسي في كل من مصر وتونس.
على ضوء ذلك ، يتضح أن الحسابات السورية تتحقق بدقة متناهية وحذر شديد ، وهي قدرة جاهدة من التحمل تؤسس لمرحلة ما بعد الأزمة. من ناحية أخرى ، لا يمكن ، في أيّ حال من الأحوال، استنساخ أيّ تجربة و قياسها مع الحالة السورية في خصوصياتها و صياغة تفاصيلها. فاستعجال الدول المعادية الغربية والخليجية ، من دون مسوّغ قانوني ، القفز فوق الخصوصية السورية ، يجعل من الصعب التوافق معها على كثير من التفاصيل ، وهنا نتحدث عن فشل تلك الدول ، لعوامل عديدة ، في إحداث اختراق فعلي بالوسائل العسكرية رغم احتلالها أجزاء من الأراضي السورية ، وبمعنىً أدق ، تسعى تلك الدول أن لا يكون للنظام السياسي في سورية أهمية أصلية إلا بالمقياس المعتمد من قبلها ، وهو أمرٌ مستحيل بوصفه تدخل وجودي يطيح بأصل الدولة ، فضلاً عن أنّه تصرف يمنح المحتل وأدواته مشروعية مضمونة في تفكيك مادية الدولة في إطار القانون والنظام.
التفكير الجزئي الناقص لدى فئة مشكوكٌ بسوريتها عاشت على الأرض السورية في ظروف زمنية معينة ، واستغلت حالة الفوضى والاضطراب ، مع أن العجز والقصور الفكري هو السمة المرافقة لها ، لا تمنحها الحق ، مهما تطوّرت علاقتها مع المحتل الأمريكي والغربي ، وهي النزاعة للسلطة والاستخلاف ، والكل يعرف نشأتها و طبيعتها وصفاتها وأحوالها ، في طلب تغيير الدستور السوري رغم أن الحكومة السورية في تصورها المنطقي الواحد ، وهي تواجه حرب كونية وجودية ، اعتبرت هذه الفئة التي استقوت بالإحتلال الصهيوني، وبكل سماحة ، أبناء وطن واحد في تداخلهم و ترابطهم مع مكونات الوطن السوري.
في ظل هذا الإهتمام الغيور ، تجلّت جوهرية تجعل ” الكل” متسقاً تحت السقف السوري وهو منظور عملي واقعي ، ولا يتناقض مع قواعد الدستور السوري والنيَّة من وراء ذلك هو معاجلة الإشكالية ، وراحت بعض الأطراف المتطرفة داخل هذه الفئة الصغيرة ، وبتفكير ميليشيوي، إلى إساءة فهم النص الوارد في المرسوم التشريعي رقم 107 لعام 2011 ، والمتضمن قانون الإدارة المحلية في مقتضى المادة (1) و المادة (31) منه ، القاضي بتسهيل عمل الإختصاصات الإدارية في السلطات المحلية حسب مقتضيات الخطة الوطنية. وهو استثناء قِيَمي يعمل على تكريس المواطنة دون المساس بمبدأ سمو الدستور.
على هذا الأساس ، يتعين التمعّن في قراءة التحولات التدريجية لاسيما الخطوات الغربية و العربية ، بنفس الوقع ، يتعيّن التفكير بإيجابية في الإتساع الكليّ للدستور السوري في ظل المتغيرات المتسارعة. وليس هو استئثار معرفي القول أنّ تهافت الإدارات الغربية ، إعلامياً ، وبوتيرة مبالغة لكتابة الدستور السوري ، يعني أنّه يشغلها ذلك ، بقدر ما يشغلها ملفات أخرى كالملف الأمني المتمثل في عودة إرهابييها إليها وإعادة عدد مضمون من اللاجئين السوريين إلى بلادهم ، والملف الاقتصادي مع رغبتها الملحة للمساهمة في إعادة إعمار سورية ، وهي تُقحم بذلك كتابة الدستور السوري ، وهو شأنٌ سوريٌّ بامتياز ، مع هذه الملفات.
دمتم بخير ،،
كاتب وأكاديمي سوري