صعبة هي الحياة بدون ماء إذ يقال بأن "الماء عصب الحياة" بل هو شريان الإنسان الذي تتوقف عليه حياته، قال جل شأنه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ.. ( سورة الأنبياء الآية: 30) وانطلاقاً من هذه الآية الكريمة تتنزل أهمية الماء بالنسبة للكائن البشري وتكون حياة الإنسان بدون الماء أمر مستحيل نظراً لحاجته إليه وحاجة جسمه له ذلك أن الماء يُعد من أهم المصادر والموارد الطبيعية التي تتعلق بالحياة وبقاء البشرية وكافة أنشطتها الاجتماعية والاقتصادية في مختلف المجالات وبالخصوص مجال الزراعة والصناعة، ويتميز هذا المورد عن غيره من الموارد الطبيعية بكون ثبات كمياته في الكرة الأرضية يتحدد باستمرار خلال فترة محدودو من الزمن بفضل الدورة الهيدرولوجية.
إن للمياه أهمية كبيرة في الحياة البشرية إذ لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات البشرية العيش بدونها حيث أن التجمعات البشرية الأولى كانت قد أقيمت علىضفاف الأنهار بل أن جميعالحضارات العظيمة التي قامت على مر التاريخ كانت المياه ووجود الأنهار سبباًرئيساً في قيامها كحضارة وادي الرافدين على ضفاف نهري دجلة والفرات وحضارة واديالنيل على ضفاف نهر النيل. وقد كان البابليون يعتقدون أن الفرات إلهاً وحينما يغضب على رعيته يعاقبهم بالطوفان وكانت هذه الرعية تنذر إليه وتتضرع له لئلا يغضب عليها. وكان الفراعنة يقدمون القرابين إلى نهر النيل. هكذا إذن كانت صلة الإنسان بالماء قديمة قدم البشرية، وهكذا أيضاً تحولت المياه في ظل تزايد معدلات النمو السكاني ومعدلات الاستهلاك والندرة الملحوظة في مصادرها إلى محور من أهم محاور الصراع الدولي في الربع الأخير من القرن الماضي وقد تنبأ العديد من الباحثين بنشوب حروب بين الدول الشاطئية بسبب المياه.
وإذا كان الماء بهذه الأهمية البالغة التي تحدثت عنها الآيات القرآنية وكذا الدراسات الاجتماعية فإن الحصول عليه وتوفيره بالشكل الذي يلبي حاجات ورغبات المواطنين يجب أن يكون من آكد الأولويات وأهم المطالب الشعبية، ولعل ذلك ما تأكد لنا من خلال المطالب المتكررة لغالبية السكان في المدن والقرى التي شكلت محطات للزيارة التي قام بها الرئيس الموريتاني مؤخراً لبعض مقاطعات وولايات الوطن إذ تقع مسؤولية تلبية تلك المطالب على عاتق الدولة بموجب العقد الاجتماعي الذي يربطها بمواطنيها إذ بموجب ذلك العقد أيضاً تتعين تلبية حاجات ورغبات المواطنين باسم المصلحة العامة وحسب ما يقتضيه النظام الاجتماعي العام وكذا التشريعات الوطنية.
وبالعودة إلى موضوع المياه وضرورتها في حياة الإنسان وقوفاً عند آخر محطات زيارة الرئيس الموريتاني لولاية الحوض الغربي – مقاطعة تامشكط- نلاحظ شُحاً كبيراً في المياه منذ مطلع العام الجاري كان له أثره البالغ في واقع وتنمية المنطقة التي يعود تأسيها لفترة موغلة في القدم وتحديداً سنة 1927، فبالرغم من هذا العمر الطويل للمقاطعة لا يوجد بها غير خزانين للمياه سعتهما الإجمالية لم تعُد تكفي حاجة السكان من الماء الشروب ومن باب أحرى الثروة الحيوانية التي لا تقل أهمية عن المورد الأول لتبقى أزمة الماء قائمة ومطلبها يتكرر من حين لآخر دون أن يجد آذاناً صاغية. الأزمة طالت بشرارتها الأسرة التربوية القائمة على تدريس أبناء المنقطة والوافدون معظمهم من مناطق أخرى من أرض الوطن، ليصبح الأستاذ في المؤسسة الثانوية مُــتــوسل ماء يشغل معظم أوقاته في البحث عن الماء الذي بات الحصول عليه أمراً شاقاً في تامشكط المقاطعة الموغلة في القدم.. وهناك يتوزع الأساتذة إلى فرق ليلية للمداومة على مراقبة حنفية المياه علها تقطر ماءً كعناصر حرس تستنفر في حالة طوارئ أو حظر للتجوال الليلي!!.
وبعد عناء كبير وتعاقب مستمر طوال ليل كامل لا جدوى سوى قطرات ماء لا تُسقي من ظمأ وأحياناً لا توجد... لا جدوى إذن من المداومة أو السهر للماء.. سئم الكل انتظار أن تقطر الحنفية ماءً وهو في الأصل لم يتجاوز حتى نصف اللتر!.. شق الأمر ولم يكن من بد سوى طرق أبواب الجيران بحثاً عن ما يُعد به الأساتذة فطورهم قبل ذهابهم إلى المؤسسة الثانوية، هذا مع التفكير ملياً في ما سيعدون به وجبة الغداء بعد عودتهم، وأحيانا يشغلهم التفكير في مثل أمور كهذه عن تحضير الدروس والإعداد الجيد لها بما يفيد من تحسين العملية التربوية ليبقى مستقبل الأبناء ضائعاً مع ضعف مستواهم الدراسي دون أن يثير الأمر انتباه شركاء الأسرة التربوية أو في حالة أخرى من يهمه الأمر، وفي هذه الحالة يبقى الأستاذ أيضاً ممتهناً التسول للماء طارقاً كل الأبواب، وهو بالأمس كان يُحدث التلاميذ عن سلبيات التسول أياً كان!!.
إذن الحصول على الماء في تامشكط ليس بالمهمة السهلة بل يحتاج الأمر إلى تخطيط مُحكم يقتضي تخصيص يوم للتدريس وآخر للتسول فضلاً عن الحراسة الليلية التي لم تجُدي نفعاً إلا أنها أذكت في نفوس الأساتذة حساً أمنياً قد يفيدهم في المستقبل فإذا ما تقرر التجنيد الإجباري كضرورة أمنية ومجتمعية. يكونون بذلك قد قطعوا نصف مسافة التدريب على تطبيق نظريات الحراسة الليلية بسهرهم ومُداومتهم على حنفية المياه. فإلى متى سيستمر هذا الوضع مع من نأمل منهم أن يُعدوا لنا أجيالاً قادمة لمستقبل واعد من شأنه أن يحقق التنمية للجميع؟. وهل الأولى التدريس أم التسول للماء ومقاومة ظروف الحياة؟ كما كانت هي بداية صراع الإنسان مع الطبيعة في عصر الجمع والالتقاط؟. وقد يتبادر إلى الذهن أن نتساءل أيضاً: هل من خطط واستراتيجيات كفيلة لمواجهة أزمة المياه في تامشكط أو على المستوى الوطني بشكل عام تضمن مستقبلا آمنًا للأجيال القادمة ؟. أم أن مسألة تحديد الآفاق المستقبلية للمياه ليست بالمسألة البسيطة بسبب وجود حقائق مؤكدة ومتفق عليها تفيد بأن الحرب القادمة هي حرب المياه؟!!. وإلى أي حد ستعكس هذه الحقائق الرأي القائل بأن قيمة المياه العـذبـة في المستقبل ستفوق قيمة النفط بالرغم من أننا لم نجد له ريحاً في بلد يعد من أغنى بلدان منطقة إقليماً من حيث الموارد الطبيعية؟.
د/الحسين محمد جنجين
باحث في مجال القانون والعلوم الإدارية
أستاذ تعليم بثانوية تامشكط