لا أحدٌ اشد عمى من أولئك الذين لا يريدون أن يبصروا!

ثلاثاء, 03/05/2019 - 15:37

 د. عبد الحي زلوم

1-   اشارات حرب 1967:

كنتُ أشاهد اخبار المساء على احدى القنوات الرئيسية في الولايات المتحدة حيث كنت آنذاك اسكنُ في مدينة أناهايم في ضواحي لوس انجلوس وأعمل مع فريق ادارة مشروع أول تكنولوجيا للتحطيم الهيدروجيني للنفط والمنتوجات النفطية الثقيلة في العالم. كان ذلك قبل شهرين أو ثلاثة من نهاية سنة 1966 . استرعى انتباهي محاولة الصحفيين بتوجيه اسئلة الى موشي ديان (صاحب مقولة العرب لا يقرأون ) عند دخوله الى البنتاغون في واشنطن . كان يشيح بوجهه عن الصحفين وكل ما قاله انني مواطن عادي ليس لي اي منصب رسمي لاجيب على اي سؤال. بعد حوالي شهر تجمهر الصحفيون حول موشي ديان في واشنطن وسألوه ماذا كنت تفعل في فيتنام، فأجاب بإختصار: كنت اتعلم على مقاومة حرب العصابات والتنسيق بين اسلحة المدرعات والجو . وكان جوابه مختصراً. في نفس ذلك الشهر قرأت خبراً في مجلة النفط الاسبوعية (Oil and Gas Journal)  بأن وزارة الخارجية الامريكية قد طلبت من شركات النفط اعادة تأهيل ناقلات النفط العملاقة التي استعملت اثناء اغلاق قناة السويس سنة 1956 . فتساءلت بيني وبين نفسي فهل اغلاق قناة السويس اصبح وشيكاً ؟ بعد حوالي اسبوعين أو ثلاث قرأتُ في نفس المجلة خبراً يفيد بأن عائلة روتشايلدز قد تبرعت لدراسة انشاء  انبوب نفط يصل ما بين ايلات على خليج العقبة وبين ميناء اشدود على البحر الابيض المتوسط لضمان امدادت النفط الايراني ايام الشاه طبعاً في حالة اغلاق قناة السويس . قلت لنفسي يبدو وأن حرباً قادمة ينتج عنها اغلاق قناة السويس كما حصل في 1956.

في طريق عودتي مع عائلتي الى عالمنا العربي حيث اصبحتُ لاحقاً مديراً لعمليات احدى شركات النفط في الخليج ، اشتريتُ سيارة مرسيديس 220s قدتها الى فينيسيا (البندقية) وشحنتها الى بيروت وقضيتُ اجازة ما بين اوروبا والقاهرة. ثم استلمت السيارة في بيروت وقدتها الى القدس .

قبل حوالي اسبوع من حرب 5 حزيران 1967 اشتريت مجلة Time. كان الوضع متوتراً جداً بين حرب وسلم وكر وفر . سألني والدي رحمه الله وهل من جديد في المجلة ؟ قلت له : إنها تقول بالحرف الواحد أنه في حالة نشوب حرب فتستطيع اسرائيل أن تتغلب على الجيوش العربية الثلاثة في اقل من اسبوع ! وقلت مازحاً لو كان هذا صحيحاً اخبرونا عن اخباركم في برنامج (من المستمعين الى ذويهم). فقال والدي (فال الله ولا فالك . )

2-   المشروع الصهيوني طريق مسدود:

جاء في كتاب المؤرخ الاسرائيلي توم سيغيف في كتابه (One Palestine Complete  ) أن الدولة الجديدة وجدت نفسها أمام تحديات كبيرة وعديدة: اجتماعية -عقائدية، وجغرافية، وسكانية، واقتصادية شكلت تهديداً لها منذ الأيام الأولى لتتعاظم مع الوقت لتصل مرحلة الخطر بحلول عام 1966، وامتداداً لأوائل 1967. شكلت الهجرة العامل الرئيسي وراء نمو الجالية اليهودية في فلسطين. لم يكن نمواً طبيعياً، وبالتالي فقد تسبب بالكثير من المشاكل الاجتماعية والسكانية والاقتصادية، لدرجة كادت معها أن تجهض المشروع الصهيوني من الأساس لولا حرب 1967. ومن أبرز هذه المشاكل:

ـ   تعرضت الثقافة الغربية التي سادت المجتمع اليهودي في الأيام الأولى للدولة بفعل غلبة الأشكناز لتهديد كبير.

ـ وجود عدد كبير من الفلسطينيين العرب في الدولة العبرية وما يمثله الجيل الأول من أبناء اللاجئين الفلسطينيين.

ـ  الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلقت أجواء محبطة وتسببت بهجرة عكسية.

 وكان القرار أن اسرائيل بحاجة الى حرب لتوسيع حدودها ولاصلاح اقتصادها.

3-   إسرائيل خططت لحرب 1967 وخلقت مسوغاتها:

في يونيو 1963 وبعد توليه رئاسة الحكومة مباشرة،  سارع ليفي إشكول لطرح قضية توسيع حدود إسرائيل على بساط البحث مع رئيس أركان الجيش زفي توور ونائبه إسحق رابين. وقتها قال الجنرال توور لرئيس الحكومة بأن الحدود المثالية لإسرائيل ستكون نهر الأردن شرقاً ونهر الليطاني شمالاً وقناة السويس كحد فاصل مع مصر. ومن جانبه علق رابين بأن هذه الحدود ستكون مثالية إذا سنحت الفرصة لفرضها. بعدها بأسابيع قليلة عرضت القيادة العسكرية على رئيس الوزراء خطة حملت اسم: السوط، لاحتلال الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. وفي خطة ثانية حملت اسم: “بناي أور”، تحدث القادة العسكريون بالتفصيل عن إعادة رسم الحدود الجديدة مع كل من مصر وسوريا، وكيفية البقاء فيها إلى أن توافق البلدان على توقيع اتفاقيات سلام نهائية مع إسرائيل، تتضمن إجراء تعديلات على الحدود الحالية وصولاً لخلق حدود آمنة جديدة. يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف بهذا الشأن:” لم يكن توسيع حدود إسرائيل مجرد حلم أخذ شكل الحديث العام لرجال السياسة، بل إن عدداً من الجنرالات ممن يؤمنون بهذه الفكرة عمدوا إلى طرحها للنقاش الفعلي والجاد، لدرجة أن الحديث دار حول ما الذي سينبغي على إسرائيل فعله بالضفة الغربية بعد احتلالها.. كانت الخيارات المتاحة إما ضمها لإسرائيل أو إقامة دولة فلسطينية تحت السيطرة تخدم كمنطقة فاصلة… كان النقاش يدور بسرية وتكتم ولذلك لم يجد صدى في الشارع الإسرائيلي”. ومضي سيغيف للقول:” غير أن فكرة إسرائيل الكبرى لم تكن غائبة عن أعين وأذهان تلامذة المدارس ممن هضموها، من النظر إلى اللافتات والكتيبات التي كانت توزعها الكتائب التربوية التابعة للجيش الإسرائيلي في المدارس عام 1959 . كان بعض الكتيبات يتحدث عن دولة إسرائيل الممتدة من النيل إلى الفرات، بينما يظهر البعض الآخر خارطة إسرائيل التي تضم غزة وسيناء والضفة الغربية.”

4-   الاستعداد  للحرب:

في نوفمبر1966، أي قبل سبعة أشهر فقط من اندلاع الحرب، شكلت الحكومة الإسرائيلية مجموعتي عمل للمراجعة السياسية والإستراتيجية. أوكلت للجنة الأولى مهمة دراسة العلاقة مع الأردن، بينما تولت الثانية مهمة تقييم الوضع على الجبهة الجنوبية مع مصر، وشارك في اللجنتين ممثلون عن : الموساد واستخبارات الجيش، ووزارة الخارجية. استكملت اللجنتان عملهما في يناير1967 ورفعتا التقارير إلى الحكومة حيث حظيت بموافقة إيشكول ورابين.

5-   تحديد مستقبل الضفة قبل احتلالها:

يلخص شلومو غازيت من استخبارات الجيش (محلل للشؤون العسكرية في الصحافة الإسرائيلية لاحقا) موقف الجيش الإسرائيلي تجاه الضفة الغربية بالقول : “لتحييد المخاطر التي تمثلها الضفة الغربية فإن على إسرائيل ، وكما يقول غازيت، العمل على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ولكن تعتمد على الجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بالدفاع والأمن الداخلي، يضاف لذلك الإشراف على السياسة الخارجية للدولة الفتية. “

ومن جانبها عرضت كلية الدفاع الوطني دراستها الخاصة بهذا الشأن انتهى معدوها إلى نتيجة مؤداها بأن الاحتلال سيكون مُجدياً لإسرائيل من الناحية الاقتصادية قبل اندلاع حرب يونيو 67 بوقت قصير وبعد انتخابه رئيساً لبلدية القدس، ألغى تيدي كوليك خططاً أعدها سلفه لنقل مكاتب البلدية من مواقعها القريبة من الخط الفاصل بين القدس الشرقية والغربية، وقال على إثرها بأن القدس ستتوحد قريباً لتصبح المكاتب في قلب المدينة!!

سنة 1963 اي قبل الحرب بأربع سنوات عين الجيش الاسرائيلي الجينرال حاييم هيرتسوك قائداً عسكرياً للحكم العسكري للضفة الغربية قبل احتلالها وتم جمع كافة المعلومات عن جميع الاسماء الهامة والمؤثرة والطرقات والحدائق العامة والبارات والى درجة نص منشور البلاغ رقم واحد باللغة العربية مباشرة بعد الاحتلال .

6-   الاستعداد العربي للحرب :

سأقصتر كتابتي هنا على ما قاله خبيرٌ عسكري محترم وقدير وهو الفريق الشاذلي. لكني قبل ذلك اختصر القول بأن العرب في مقدمتهم مصر قد تم جرها الى الحرب عبر ردود أفعال محسوبة من الغرب وغير محسوبة العواقب من قبلهم بما في ذلك سحب المراقبين الدوليين من سيناء . قال الفريق الشاذلي :

من الخطأ الاستراتيجي و السياسي والعسكري أن يؤخذ قرار فتح جبهتين للجيش في آن واحد حيث كان اكثر من نصف الجيش المصري في اليمن .

لم تكن نية مصر دخول الحرب وإنما كان حشدها استعراضياً لمنع اسرائيل من الهجوم على سوريا.

هدف اسرائيل كان عكس ذلك وهو جر الجيش المصري الى سيناء .

طُلِبَ من الفريق الشاذلي  قبل 24 ساعة من الحرب الحضور الى مطار الماظا للاجتماع بالمشير عبد الحكيم عامر تمام الساعة 8 صباحاً من يوم 5 حزيران 1967. وكذلك طلب من كافة قيادات الجيش في سيناء لحضور الاجتماع نفسه. وكان توقيت الاجتماع هو نفس توقيت ضرب كافة المطارات والطائرات الاسرائيلية وبدأ الهجوم وكافة وحدات الجيش المصري في سيناء دون قياداتها. ويقول ان هناك من مثل هذه الاحداث ما يستدعي عمل تحقيق بأمرها حيث أن الصدفة ليست هي الجواب .

ويقول ان عبد الحكيم عامر كان هو الامر الناهي والاوحد في الجيش المصري وأن محاولات عبد الناصر لكبح جماحه والتخفيف من صلاحياته خصوصاً بعد فك الوحدة مع سوريا لم تنجح لان المشير قاومها.

كما قال الشاذلي ان معلومات المشير العسكرية بقيت محدودة لا تتجاوز معلومات البكباشي .

الملخص المفيد :

رأينا كيف كانت الاستعدادات للحرب من جانب العدو بطريقة مؤسسية مدروسة من كل الجوانب وبأدق التفاصيل ونستطيع أن نقول أن مثل هذا التخطيط كان غائباً لدى مصر وبقيت الجيوش العربية .

ما زلتُ أؤكد احترامي وتقديري الى وطنية جمال عبد الناصر والى العديد من انجازاته الاجتماعية والاقتصادية . كان نظيف اليد . قرأتُ في منتصف الخمسينيات في الصحافة الامريكية أن مشكلة المخابرات مع عبد الناصر هي صعوبة الوصول اليه لنظافة يده وشخصه حيث فشلت معه وسائل الاغراءات الجنسية والرشاوات . لكن نهج الحكم غير المؤسسي جعل من السهولة لنائبٍ اختاره بنفسه أن يمسح الكثير من انجازاته . توفي رحمه الله شاباً وبالرغم من حروب السويس واليمن وال1967 والاستنزاف وبناء بنية تحتية صناعية وسد عالي فقد كانت مديونية مصر عند وفاته لا تزيد عن 2 مليار دولار في حين وصلت في نهاية عهد السادات الى 18 مليار دولار وهي اليوم قريبة الى المئة مليار وكل ذلك في عهد السلام المزعوم .

بقي  أن أقول أن أكثر ما آلمني أنني كنت استمع في حرب الساعات الـ6 الى راديو (هنا القدس : اذاعة المملكة الاردنية الهاشمية) لتصبح نداء تلك المحطة بعد أقل من يومين من الحرب تقول (هنا صوت اسرائيل ) ثم لتصبح بعد ذلك (هنا صوت اورشليم القدس) . وللقصة بقية .

مستشار ومؤلف وباحث

الفيديو

تابعونا على الفيس