محمد عاليون صمبيت
حول المفهوم، فإن الإلحاد يعني عدم الاعتقاد أو الإيمان بوجود إله، ويتناقض هذا الفكر مع فكرة الإيمان بالله أو الإلوهية، إذ أن مصطلح الإلوهية يعني الإيمان بوجود إله أو مجموعة آلهة.
تم استخدام كلمة ( اللاَّرُبوبية) كترجمة عربية لكمة (Atheism) في حملة دعا لها العالم "ريدشارد دوكنز" لظهور ( اللاَّرُبوبيين) كمحاولة لإشهار كلمة لا تحمل معنى سلبي وتعطي المعني المطلوب، لكن كلمة إلحاد هي المستخدمة بصورة شائعة حتى من قبل الملحدين العرب.
يبدو أن فكرة إنكار وجود الخالق من الأساس كانت فكرة مستبعدة القبول شعبيا عبر العصور، إذ يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك : "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد"
وفي الخوض في ظاهرة "الإلحاد"من الصعب جدا القول إن النسخة المتأخرة هذه من الأمة الإسلامية تمثل الله و دينه و رسوله، بدعوى سطحيتها وعدم أخذها بمبادئ العلم التي مهد لها من سبقها، وانصرافها إلى ما أنتجه "الكفار" و"الملحدون" من وسائل الترفيه وملذات الحياة وتمجيدها الاستبداد السياسي واستناد التراتبية الهرمية فيها على عهد ما قبل الإسلام وتفشي بعض الكوارث من صنع أيادي أبنائها فيها:كالقتل واختلاس المال العام واستغلال النفوذ للبغي والعدوان على الناس بغير الحق، إلى غير ذلك من وسائل الدمار والقتل والتشريد وما نجم عنه من أوبئة وأمراض نادرة ومجاعات يندى لها الجبين واحتقان: عرقي،إثني،طائفي- مذهبي وسياسي ..
هذا كله في أمـــــة تعتبر نفسها "شعب الله المختار.."، مع ذلك عند أول تساؤل وجودي حول الكون أو جوهري حول بعض الأشياء، تبرز الأمة ذاتها ملقية بكل ثقلها ثم ترميك بما يحلو لها وتشحذ ألسنتها بالسب وتتضرع إلى الله "أن امسخه قردا أو خنزيرا واصله عذاب جهنم". تلك الأمة لم تجد حرجا قط، للتفكير للحظة في حبائلها مع الله، هل هي موصولة لا تزال؟ أم قُطِعت مُذْ قُطِع الصدق مع الذات والعدل بين الناس والدعوة بالتي هي أقوم حتى تفكر قبلها في دعائها؟ أَمُجابٌ هو أم مردود عليها كرد تساؤل ذاك الملحد دون جواب يلقيه صريع الحيرة من هول الجواب الشافي لتساؤلاته؟
تكتفي هذه الأمة بين الفينة والأخرى بالقول " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام..."، هنا أتساءل: إذا كانت الأمم العزيزة بفضل إسلامها هي: موريتانيا ،الصومال ،السعودية ، باكستان. فما هي الأمم الذليلة في عصرنا هذا؟ ترى هل هي سويسرا وأمريكا وكندا وألمانيا؟ وما المعيار؟
لكن هذه الأمة أيضا تتغاضى عن وجود تاريخ لها زاخر بالملحدين والزنادقة والمشككين في بعض صفات الذات الإلهية ..،وتلقي بلومها -كالعادة-على الغرب ومعاشرة الغرب ومال الغرب وفكر الغرب ووجود الغرب، ضمن نظرية "نحن" و "الآخر" المتآمر علينا. بحيث لا يعلم الكثيرون أن هناك أدلة على وجود ملحدين عرب قبيل وبعد ظهور الإسلام وهم طائفة الدهريين الذين كانوا يؤمنون بقدم العالم، حيث يذكرهم القرآن (( وقالوا وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)) سورة الجاثية الآية 24.
بعد انتشار الإسلام ظهرت طائفة من الملحدين، منهم من كان يشكك في بعض التراث الديني لغرض التشكيك في الدين نفسه، ولم يكن ذلك سوى نتيجة حتمية لتبني بعض الفلسفات الشرقية كـ"المانوية" ومن أمثلة هؤلاء ابن المقفع وممن شككوا في النبوة ابن الراوندي، الذي شهدت حياته - حسب بعض المصادر- تحولات مذهبية وفكرية كبيرة: فمن الإلحاد إلى الإسلام، ومن الإسلام إلى الإلحاد، بتأثير من الملحد الكبير "أبو عيسى الوراق" الذي صده عن الإسلام. وأزهى مرحلة وصل إليها الإلحاد كانت على يد الطبيب والكيميائي والفيلسوف "أبو بكر الرازي"(865م-923م) ومن كتبه في هذا الإطار "خوارق الأنبياء"، وأنكر الرازي على المعتزلة محاولة إدخال العقل بالدين، بحجة تعارضهما، ومن مقولاته:" وأيم الله لو وجب أن يكون كتاب حجة لكانت كتب أصول الهندسة، والمجسطي الذي يؤدي إلى معرفة حركات الأفلاك والكواكب، ونحو كتب المنطق وكتب الطب الذي فيه علوم مصلحة للأبدان أولى بالحجة مما لا يفيد ولا يضر ولا يكشف مستورا". وقد يعتبر أبو العلاء المعري وأبو نواس من الزنادقة الملحدون أو الملحدون الزنادقة.
بيد أن تلك الطوائف من الملحدين –على كثرتها- لم يشع أن فردا منها أعدم بسبب تساؤله الجريء! فَلِمَ يا ترى؟ هل هو ضعف وُلاَّة الأمور وضلالتهم ؟ أم من نهج الإسلام الصحيح القائم على المحاججة بالبراهين ومناظرة من كان في صدره تساؤل ليطمئن قلبه للإيمان؟
من الجدير بالذكر في تلك المرحلة من عمر الأمة العربية الإسلامية أن الإلحاد لم يكن ليعتبر موضة عابرة أو انعكاس لترف مادي ..، إنما كان نتيجة لترف فكري، حيث كان أصحابه من زبدة المجتمع علما ومعرفة وفكرا وتدبرا في آيات الله( الكون ،الإنسان ،الحجر ،الدواب)، لذلك إذا استثنينا بعض التضييق (السياسي أصفه) على أصحابه، فإن الرد كان يتم عليهم عبر الحجة الدامغة والدليل القاطع من معاصريهم من علماء فلاسفة ،لا كما هو الحال اليوم ( سبِّ وشتمِّ ودعوة لإراقة الدماء ..)، كانت روح العلم تسمو وكان واضحا لدى رجال الدين (الفقهاء) أنذاك أن نصرهم مرهون بمستواهم العلمي وأدلتهم العقائدية العملية المستنبطة من الوحي بالعقل.في هذا المضمار أصبح الفقهاء فلاسفة وطوعوا الفلسفة وأحيوا مواتها وتحلوا بروح النقاش المجدي. كان الغزالي مثلا يكتب في تسفيه الفلاسفة(تهافت الفلاسفة) وببساطة علمية منقطعة النظير يرد عليه "ابن رشد" في هدوء وسكينة (تهافت التهافت) وأمثلة أخرى عدية
لا حقا اشتبك الديني بالسياسي ولم تستطع الأمة العربية الإسلامية الحفاظ على مكاسب الصدر السالف من تاريخها العلمي. نزع الساسة لتدجين الرعية ومَدت الرعية لجامها طائعة وسلمت لجلادها الأمر طائعة.. أضحى العقل في مأزق والفكر في تحجر والرأي في مصادرة دائمة.
أصبح الإنسان العربي المسلم و المسلم المستعرب مقهورا، وأصبح الإلحاد تَجلِّ لصفة القهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والظلم الاقتصادي، أصبح مطية لكل باحث عن إسماع صوته المبحوح إلى العالم الخارجي- طبعا بغير ضمانات تقيه بطشة الضمير الجمعي المبني على أساس تُرَّاهات وأحلام اليقظة وتمجيد سجانيه- من هنا لا يُناقشُ مَدفوعٌ إلى الإلحاد في دوافع إلحاده، فيموت مع سرِّه في مجتمع آخر سيقدم إليه من عرابين الإكرام وجوائز التكريم ما يجعله يتمادى في اعتقاده أنه على حق وأنه أعجز ذويه .. وهكذا دواليك.
ذلك الضمير الذي نتسابق لتلبية نداءه كل مرة، هو إنما يقتل كل واحد منا عند كل نداء، فيبعثه إلى "الأعداء"، لنجعل منهم أبطال الإنسانية، ونجعل من أنفسنا أعداء لها، لا نقوى على المحاججة والنقاش، لا نطمح للعلا فنسمو. ديننا نختزله في بضع ركعات وفتوى نكاح وتكفير..إلخ.
كل مرة نتيح الفرصة "للخصم" المجهول، كي يجهز علينا من داخلنا، لكنه يأنف من الغدر فيمهلنا.
نحن المؤمنون ببعض الكتاب: آمنا بالله ورسله وكتبه..
الملحدون ببعضه:التحرر من الأوهام والانفتاح العقلي..