د. حميد لشهب
تتشابه نماذج الحكم في العالم العربي بدرجات متفاوتة في الشكل والألوان وتسريحات الشعر ونتف الحجبان، لكن مضمونها العميق يبقى قارا لا يتغير منذ غابر الأزمان: الإستماثة في عدم فقدان السلطة والإقتتال والتقاتل لمحاولة استرجاعها إذا ضاعت لسبب من الأسباب. ولعمري أن هذه هي الصفة الأساسية للحكم الديكتاتوري عندنا، حتى وإن جاء عن طريق “صناديق اقتراع شفافة”. ولعل أدق مثال على هذا هي حالة رئيس الوزراء السابق للمغرب، الذي لم يهضم بعد إخفاقه السياسي وإبعاده عن كرسي السلطة على الرغم من أنفه، لأنه كان يعتبر هذا الكرسي مكسبا مدى الحياة. وتعامله الحالي، على الرغم من أن المرء أغرقه في معاش مريح ماديا على كل الأصعدة، يسجل للتاريخ بأن عطشه السلطوي على السلطة لا يُرتوى وبأن غليله لم يُشف بعد.
يتصرف بنكيران وكأن الساحة السياسية المغربية حظيرته الخاصة، يُدجن فيها من يشاء ويصب غضبه على من لا يوافقه في الرأي. فكل طلعاته الأخيرة تُبرهن بالكاد على إن بُنيته السياسية لا تؤمن إلا بذاتها، ولا توجد إلا بذاتها ومن ذاتها، ولا تعترف إلا بإنيتها. فالآخر لا يوجد إلا بمقدار ما يُقدمه من خدمات مباشرة أو غير مباشرة لهذه الذات المتشنجة مع ذاتها في المقام الأول. لا زال بنكيران يتصرف كرئيس حكومة يأمر وينهي وينصح ويُوبِّخ ويعظ إلخ، على الرغم من أن المرء بنى من حوله أسوارا عالية. يتفنن في إشعال الحرائق في الجسد الحكومي الحالي، ويتسلى كثيرا عندما يحاول خليفته على الكرسي إخماد هذه الحرائق لإتمام المهمة بسلام.
لا يتورع بنكيران في الهجوم على من يعتبرهم خصومه بكل وسائل الهجوم المُتاحة، الظاهر منها والمستتر، ولا يهمه استقاظ المغاربة على فاجعة الثنائيات الأخلاقية لحزبه، الذي قدم نفسه في الإستحقاقات الانتخابية كنموذج للحزب النزيه المؤمن بالله والوطن وحزمة من المبادئ الأخلاقية السامية. فلا حرج بالنسبة له في حضور محاكمة من قد تكون يداه ملطخة بدماء ولا خوف على من تعيش فصاما سلوكيا بين الرباط وباريس إلخ. ما يهم بنكيران هو إشباع رغبات ذاته في وضع عصي في عجلات الحكومة الحالية، حتى وإن كان يعلم مسبقا بأن محاولاته لا تُجدي نفعا، لكنه يصر على الضجيج ومحاولة العرقلة، إيمانا منه بأنه هو الفاعل الحقيقي في حزبه والممثل الشرعي له.
بنكيران ليس حالة استثنائية في العالم العربي، بل يُمثل القاعدة العامة لسلطويين لم ينجحوا في عملية “الفطام”، بل يُعتبر ثدي السلطة الينبوع الحقيقي لاستمرارهم في الحياة. على عكس الكثير من الساسة المغاربة المرموقين الذين قبلوا بصدر رحب تقاعدهم السياسي، ومنهم من يستغله في أمور إيجابية جدا، وبالخصوص كتابة مذكراتهم أو جزء من تاريخ المغرب الحي؛ فإن صدمة هذا التقاعد كانت كارثية على بنكيران. وبما أن عملية “الفطام” لم تتم بطريقة إيجابية وموضوعية، فإنها تُنتج نوعا من “الفُصام”، لا ينفع معه علاج ولا دعوات أولياء الله الصالحين. والخاسر الأول من هذا “الفصام” هو الشعب المغربي قاطبة، لأن عمليات التشويش والبلبلة تشغله على تتبع الملفات الحقيقية للبلاد، وبالخصوص ملف الوحدة الوطنية والتعليم والصحة والشغل. ومن هذا الجانب فالخدمة الوحيدة التي يقدمها بنكيران للحكومة الحالية هي صرف نظر الشعب عن قضاياه، وبهذا يبقى وفيا لذاته ومدافعا عنها كآخر مهمة له في الحياة.