حميد لعدايسية
“قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ” (34) النمل-
والسؤال المطروح لماذا افتتحت محنتي الحضارية بهذه الآية من سورة النمل؟ والاجابة هي ما تقتضيها اوضاعنا في هذه المرحلة العصيبة، وهي المعادل الموضوعي ايضا لما تعيشه الجزائر منذ اختفاء سيادة الرئيس من المشهد السياسي، منذ ما يقرب من عقد من الزمن، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى ان الآية تعبر تعبيرا صادقا عن القوى اللادستورية التي غيبت الرئيس واخدت صلاحيته فعاثت في الجزائر فسادا ونهبا وتضليلا وتدليسا وتلبيسا دون أي وازع اخلاقي يردعها، وبذلك اخدها العزة بالاثم ، وتورم آناها بما تفعل، وبذلك وصل كل فيصل من هؤلاء المفسدين الى حالة نفسية متغطرسة ظنوا انهم ملوك وبذلك تعاونوا على التدمير والفساد والترهيب والترغيب لكي لا ينكشف امرهم، وبذلك ايضا فإن ملمح الآية ينطبق على ملوك الفساد في الجزائر، حيث عبرت الآية عن طبيعتهم منذ ان تمكنوا من الرئاسة وغيبوا رئيسها – شفاه الله و صان تاريخه من التدنيس – حيث أشاعوا الفساد في الجزائر واباحوا تاريخها وشرفها وحطموا القوة المدافعة عنها وعلى رأسهم شرفاءها وجعلوهم ادلة لانهم عنصر المقاومة…وهذا هو دأبهم الذين يفعلون.
فما اقرب اوضاعنا من هذه الآية الكريمة، وهذا هو سر صلاحية القرآن لكل زمان ومكان لأنه يعالج حالات تتجدد في كل مرحلة تاريخية ، لان القرآن رؤيا حضارية متجددة ، ولا يلتصق بالملابسات التاريخية وإنما بالحالات النفسية.
انطلاقا من هذه الملابسات القرآنية . التي ألمت بأوضاعنا في آية من سورة النحل، أقول لأصحاب النوايا الطيبة أينما وجدوا، علينا ان نعي لما يحاك لنا من طرف ملوك الفساد، ويجب ان نعرف ان الوعي يعني ادراك الحقيقة، وتحديد الاولويات، واكتشاف الملابسات، وتمييز الالتباس واكتشاف التزوير، فالشعوب الواعية شعوب يقظة متبصرة ترتفع الى مستوى التحديات التي تحيط بها، اذ ليس لها الا امتلاك ناصية هذه المحنة من سبيل الا ان تجمع شملها وتوحد كلمتها ، لكي ترتقي بالجواب عن اسئلة أزمتها الى رتبة الاستقلال دون أي تدخل أجنبي الدي جعله المفسدون فزاعة.
ومن هذه الحيثية التاريخية المؤلمة، أقول لأصحاب النوايا اينما كانوا ، ومهما كانت اتجاهاتهم ان يرتفعوا الى مستوى هذه الاستقلالية ولا يخفى على ذي بصيرة من اصحاب النوايا ان اوضاعنا معقدة ، وتحتاج منا الى وعي تاريخي خلاق، لأنه اساس الوعي الحضاري، واذا ما اهتز الوعي الحضاري وتفككت، اواصر الوحدة الوطنية الى حد الانقسام، والمطالبة بالاستقلال الذاتي في الوطن الواحد، كما يحضر له في مخابر متصهينة – لا قدر الله – ان يحدث في الجزائر العابث بها مند ان غيب الرئيس، فإنما يرجع ذلك الى غياب الوعي بالتاريخ، بعدما انقلبت عليه الوجوه المستعارة في مطلع القرن الواحد و العشرين.
فأي مرحلة من التاريخ نعيش ؟ وما دور الاجيال الحالية المغلوبة على امرها عن طريق الترهيب و الترغيب و الحرقة، بعدما سدت في وجهها كل الآفاق بصهينة الاوضاع وتسطيح الازمة من طرف ملوك الفساد ؟ وافراغ هذا الوطن من كل معانيه التاريخية والحضارية وتبديد خيراته في كل الاتجاهات من اجل طمس الحقيقة: حقيقة الدمار ، حقيقة التواطؤ الذي وصل الى حد الخيانة؟ والتاريخ خير قاض مستقبلا ، وان يوما لغده لقريب ؟
ولنعلم جميعا وفي ظل هذه الارهاصات المؤلمة ان سنن التاريخ ثابتة ولا تحابي احدا (ولن تجد لسنة الله تبديلا). متحققة في التاريخ منذ محنة الاندلس …الى تدمير سوريا واحتلال العراق واثارة الفتن في اليمن ، وقائمة السنن التاريخية في الاوطان العربية الحالة لا تتسع لها هذه المساحة ، لكن القرآن يؤكدها (قد خلت من قبلكن سنن فسيروا في الارض) هي كلمة الله تتحقق في الواقع (لا مبدل لكلمات الله) . والتاريخ ميدان الوعي (افلم يسيروا في الارض فينظروا) من اجل النظر والاعتبار وبلورة الوعي ( أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذانا يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). وقلوب ملوك الفساد في الجزائر بعد ان غيبوا الرئيس وشوهوا تاريخه فلم تصبح لهم حتى القلوب ، بل غرائز الحقد والانتقام التي تأججت في مطلع العهدة الخامسة. وسنن التاريخ ليست قوانين الطبيعة الحتمية بل هي قواعد السلوك الانساني، ومعاييره ، أي الاخلاق فالأخلاق هي سنن التاريخ مثل التقوى ( ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا). والاستقامة (وان لو استقاموا على الطريقة). والصبر(فصبروا على ما كذبوا) واذوا حتى أتاهم نصرنا) . ضد الاستكبار في الارض والمكر السيئ. وملابسات الوضع في الجزائر هو ملمح هذه الآية القرآنية. الا ان مستكبري الجزائر لم ينتبهوا كيف حاق بهم المكر دون ان يشعروا ( ولا يحق المكر السيئ الا بأهله) لان المفاسد والمكائد والتواطؤات ختمت على قلوبهم فتركتهم في طغيانهم يعمهون. والبداية من الداخل قبل الخارج، وبالفرد قبل الجماعة وبالاخلاق قبل السياسة ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
والتاريخ في اسمى معانيه معانيه الحضارية ، تاريخ تجارب وعذابات ومحن وإحن ، والجزائر اولى الناس بهذه المعاني السامية حيث بنت ملحمتها النوفمبرية على مجزرة رهيبة ( 8 ماي 1945) الذي انتج ملحمة تاريخية انقلبت فيها الارقام والمواعيد فكانت واحد نوفمبر 1954 – سبحان الذي يخرج الملاحم من المآسي والنكبات – هذا هو تاريخ الجزائر تاريخ الجهاد والتشبث بالارض والعرض والقيم . اين نحن من هذا ؟ لماذا اذلنا المفسدون ؟ بعد ان اعزنا النوفمبريون ! اين نحن من أنفسنا ؟ من اين اتى المفسدون ؟ من يقوم بتغطيتهم محليا ودوليا؟ !!! إنها علامات تعجب كبيرة اذا فككنا التعجب والاستفهام سندخل في متاهات لكن سنترك التاريخ يجيب امتثالا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (101)
ولنعلم جميعا ان انهيارنا ان بقينا في اللاوعي سيكون عن طريق المفسدين الذين اشارت اليهم الآية في مطلعها يضاف اليها قيم الاستهلاك المبرمج من هناك أي الفساد الاقتصادي والترف الذي تستجيب اليه الآية القرآنية ايضا في سورة الاسراء وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (16) اذا هذا هو حالنا تنبأت به الكتب في اللوح المحفوظ ، ونحن غافلون ، والمفسدون شاردون ، اين المفر اين الاجابة عن هذه التساؤلات المأساوية الى اين نتجه وملوك الفساد مصممون على اسطرة شخصية الرئيس من اجل ادخال الجزائر في نفق مظلم . ترى اليس هناك من رادع يكبح جماح هؤلاء المفسدين ويصدهم عن الفتنة المجبولة بالنكبات وأسطرة شخصية الرئيس من اجل زعزعت شخصية الجزائر .
تعالوا نقرا ملابسات أوضاعنا، قبل ان يلفنا ملوك الفساد ، هل بعد هذه الملابسات التاريخية الحية المؤلمة التي نعيش مآسيها، مازال الانتهازيون يصفقون لعهدة خامسة لم يعلنها الرئيس المغيب، الذي استغلت شخصيته اسوأ استغلال فلنراجع أنفسنا ، و لنعلنها حالة طوارئ قصوى من الوعي النوفمبري الخلاق الذي يجمع شرفاء هذه الأمة بكل إتجاهاتهم و أطيافهم ،و لنقل لهؤلاء للمطبلين للخامسة كفاكم استخفافا بشخصية الرئيس، وكفاكم تدنيسا لتاريخه، فالرئيس ملك لكل الجزائريين، ولنا الحق ان ندافع عن تاريخه ونحرره من ايدي المفسدين، انه رائد جيش التحرير الوطني انه رفيق درب لشهداء الثورة فكيف سوغت لكم انفسكم ان تدنسوا مساره التاريخي والنضالي. ايها التائهون ، الذين يريدون ان يدنسوا شرف هذا الرئيس وهو مغيب ، وتحت الاقامة الجبرية التي اعدها المكرة الفجرة . هل تعرفون بلدا مثل الجزائر ، مناطقه تاريخ و أرضه لعنة على المرتدين و الوكلاء و ترابها جماجم القادة و الأبطال الذين قهروا كل الغزاة و الدخلاء ، لكي تبقى ( الجزائر أمازيغية الأصل و الفصل ، إسلامية الدين و العقيدة، عرابية اللسان و الثقافة ) تأبى الركوع و الخنوع.
هلموا جميعا نقرأ التاريخ قبل أن يقرأنا و أنني اشعر كأنني أغني في واد غير ذي زرع ، أو كيف لي أن أطلب من المترفين المفسدين في كل الاتجاهات ان يقرأو التاريخ و أن يستوعبوا حقائقه ، بينما هم يرفضون أن يفتحوا أعينهم لكي يروا الحاضر و يتجنبوا أخطاره؟ (إنهم في طغيانهم يعمهون، و بوعينا يدمرون و على الله قصد السبيل) .
– جامعي وباحث جزائري