د. لؤي منور الريماوي
الثقة بالنفس والإعتداد بالإنجاز الوطني في مكافحة الفساد والفاسدين في الأردن هو شيئ مطلوب. فالجديّة في خوض هذه المعركة وإستيعاب أنها الركيزة الأساسيّة لإكتساب الثقة الشعبيّة تتماشى يداً بيدٍ مع ضرورة عدم الإنتقاص أو الإستهانة الكيديّة بمسيرة الأردن الوطنيّة والجهود الصادقة والمخلصة التي يبذلها اليوم الملك عبدالله الثاني ومن حوله من الأردنيين ممن عُرفوا بنزاهتهم وتفانيهم في خدمة الوطن.
ولكن هذا القصور الكبير في حسم ملف الفساد في الأردّن لا يُبرير مُطلقاً هذه المُغالاة الحكوميّة من خلال هذا التهليل الرسمي الذي لاحظناه مؤخراً بعد قرار مدعي عام محكمة أمن الدولة توجيه الإتهام لوزير سابق ومدير عام جمارك سابق وغيره من مسؤولين سابقين. فلقد إنتهى عصر تحكّم الأنظمة السياسيّة بالأجندة الإعلامية وزالت مقدرتها أن تفرض على شعوبها أية أجندة إعلامية رسمية بظهور الميديا الإجتماعية وقدرة المواطنين على الحصول على معلومات هائلة ودقيقة من مصادر كثيرة ومتنوعة وخلال ثوان.
ما تقدم من تهليل رسمي مرفوضٌ أيضاً لأن الثقافة الرسميّة التي كانت سائدة في الأردن وفي أعلى المستويات السياديّة، وحتى وقت قريب جداً، لم تتعدى كونها ثقافة الخجل في الحديث عن الفساد. هذه الثقافة الإنهزاميّة والتي نجح الفاسدون ومنظروهم من محاسيب وأصهار ومنافقي النظام وغيرَهم من ’نخبويين‘ في التسويق لها غُبناً بالنظام الهاشمي (والذي أساس شرعيته حملُه للقيم العُليا) وإستهتاراً بالأردن والأردنيين على أساس أن الطرح العلني والمباشر لموضوع الفساد فيه إحراج إقتصادي للأردن ويُضعف ثقة المستثمرين فيه. مع أن الحقيقة كانت أن شجاعة الطرح لهذا الموضوع والمباشرة الصريحة فيه ومن أعلى المستويات السياديّة كانت ستُكسِب الأردّن والأردنيين إحتراماً دولياً وإقتصادياً وقانونيّا كبيراً وتضعة في مكانة متقدمة في منطقة الشرق الأوسط كدولة جادة في إستئصال الفساد لأن أول خطوات العلاج الشافي هي التشخيص الدقيق غيرالمُجامل فيه.
فالحديث الرسميّ في عمان كان أجدر أن يكون عن النظرة إلى الأمام وحديث الحكومة بمنتهى درجات النزاهة والشفافية الوطنية عن ماهية التقدم في العشرات من قضايا الفساد الكُبرى العالقة وآخر التفاصيل عن جلب الفاريين من أحكام القضاء الأردنيّ وأين نحن من إسترجاع مليارات الأردن المهدورة؟ لا سيما في ظل هذه الإنهزاميّة الرسميّة والتي أصّرت مؤخراً على ردِّ مُعضلة الأردن الإقتصاديّة إلى ’حصار إقتصادي غير مُعلن‘ في تنصّلٍ لعطاء الأشقاء في السعوديّة والإمارات وقطر والكويت وغيرهم على مدى عقود خلت في إيحاء رسمي غير مقبول بأن الأردن والأردنيين بلا كرامة وطنيّة وأنهم دائماً وبشكلٍ أبدي محل القروض والهبات والأعطيات الخارجيّة.
وفي تباكيها المُحبِط للعزائم هذا فإن الحكومة الأردنيّة تتجاهل التركيز على الحديث عن عوامل قوة جبهتنا الداخليّة والتي من مميزاتها اليوم هذا الوعي الوطني الأردنيّ غير المسبوق وهذا الإهتمام الشعبي السياسي بسبب حراكه المبارك والبدأ بإطلاق يد الشرعيّة القانونيّة الأردنيّة بنزاهة يُعتز بها بعيداً عن تداخلات السياسي بالأمني. فبالرغم من الإشاعات المُغرضة والتي حاولت النيل من حيادية وإحتراف أجهزتنا التحقيقيّة الأردنيّة نجد أنها تضاهي اكثر الأجهزة التحقيقيّة تقدماً في مراعاتها للأصول القانونيّة، لا سيما كما اثبتت اليوم في قضيّة المتهم عوني مطيع.
فلو قارنا مثلا سريّة التحقيقات الأردنيّة مؤخراً ونجاعتها في مراعاتها لخصوصية المتهمين لوجدنا أنها لا تختلف كثيراً عن نظيرتها البريطانيّة المقيّدة بقانون حفظ المعلومات البريطاني لعام 1998 وقانون الحقوق الإنسانيّة البريطاني لعام 1998 وفي كثير من التعليمات المنبثقة عن جمعيّة قادة الشرطة البريطانيّة (والتي أنشات عام 1948 والتي تم إستبدالها عام 2015 بالمجلس القومي لقادة الشرطة البريطانيّة).
فتعليمات الشرطة البريطانيّة (الصادرة في شهر أيار لعام 2009 المنبثقة عن التعاون المشترك لجمعيّة قادة الشرطة البريطانيّة والإدعاء العام البريطاني ومكتب إصلاحات العدالة الجنائية البريطاني) تنص على عدم جواز بث صور ومعلومات الا للضرورة القصوى عن المشتبه فيهم وغيرهم من الذين يتم إعتقالهم على ذمة التحقيق. ومن هذه الضروريات البريطانيّة التي تسمح بإفشاء معلومات عن المتهمين مثلاً: منع أو الكشف عن الجريمة، القبض على الجناه الفاريين، تشجيع ضحايا الجرائم والشهود، ردع الجناه لجرائم مماثلة، طمانة الرأي العام وتعزيز الثقة بنظام العدالة الإجرامي، إلخ.
هذه الضروريات البريطانيّة مقيدة بمعاير دقيقة يجب إعتبارها في كل حالة على حدة مثل معيار ’الحاجة‘ بأن هنالك حاجة مشروعة ومربوطة بنشر الحد الأدنى من المعلومات الشخصيّة. كذلك قيد ’التناسب‘ وبشكل طردي مع خطورة الجريمة حيث كلما زادت خطورة الجريمة كلما كسر حاجز نشر معلومات عن المشتبه فيهم مع أن هذه ليست بقاعدة عامة بحسب فهم الشرطة البريطانيّة. ومن الإعتبارات التي تُؤخذ في تطبيق هذا القيد المصلحة القوميّة، وضع الضحايا، شمولية الجريمة، المصلحة المجتمعيّة، إلخ.
فما تقدم من مضاهاة الحفاظ على سرية التحقيقات في قضية المتهم مطيع والمتهمين الأردنيين وعدم تسيسها هي نتيجة إصلاحات هيكليّة منهجيّة تراكميّة لأجهزتنا الأمنيّة الأردنيّة والتي بدأت تًعطي ثمارها اليوم. لا سيما أنها تأتي في جوٍ عشائري ناضج غير متعاطف مع الفاسدين وأنه بالرغم من دعم معنوي مشروع مع المتهم (والذي يبقى بريئاً حتى تثبُت إدانته)، الا أن هذا الجو العشائري العام يقف خلف السلطات القضائيّة الأردنيّة بكل حزم. وما شاهدناه في إعتداءات طفيفة على الشوارع العامة في إربد ما كانت الا تصرفات فرديّة يتحمل منفذوها تبعاتها وفقاً لقانون العقوبات الأردنيّ حيث كانت كل العشائر المعنيّة قد عبرت عن إستنكارها لهذه الأعمال غير المسؤولة.
فبالرغم من ضائقة الأردن الإقتصاديّة وبغض النظر عن مسبباتها (والتي على رأسها هذا الهدر البيروقراطي والفشل في لجم الفساد وضعف الرؤية الإستراتيجيّة الإقتصاديّة وغيرهم من العوامل)، يبقى المعيار الأول والأهم في الأردن اليوم هو معيار ثبات وتماسك الجبهة الداخليّة وإطلاق يد الشرعيّة القانونيّة الأردنيّة والقدرة على تفجير الطاقات الوطنيّة الكامنة. هذا المعيار هو المقياس الحقيقي لما سيؤول إليه الأردن والذي بخلاف آراء المشككين سيبقى في نظرنا الأقوى، لأننا كأردنيين لن نُهزم من هذه الهلامات الإسترزاقيّة التي عاثت فساداً بقيمنا وثوابتنا وأوصلت الأردن للذي هو فيه اليوم.
مستشار قانوني للإدعاء العام البريطاني وزميل أكاديمي أردني سابق في كلية القانون بجامعة هارفارد