تطفو مسألة حرية الإعلام علي واجهات الرأي العام بعد البيان الذي أصدره أحد أهم الأقطاب السياسية بالبلد( المعاهدة من أجل التناوب الديمقراطي) و الذي طالب من خلاله الجهات المختصة بمزيد اليقظة و الضبط اتجاه اختراق بعض وسائل الإعلام السمعي البصري من بعض المنابر العنصرية و الشرائحية و المناطقية و هو البيان الذي لم يخل من شيئ و لو قليل من " الخشونة اللفظية".
لا مشكلة لدي مطلقا مع فهم "أسباب نزول" بيان العاهدة من أجل التناوب و أنا الذي نبهت مرات عديدة إلي ضرورة التفكير الجاد و الاستباقي من أجل الوقاية من "صداع اجتماعي" أخشي -إن لم نتداركه و لسوف نتداركه- أن يكون قد اقترب. ضف إلي ذلك أن الخط الوسطي لقادة المعاهدة المنحاز للتناوب السلمي و التغيير المتدرج و التراكمي في زمن "شبه الفتنة العربية" هو بالنسبة لي فضيلة تجب ما قبلها و تشفع لما بعدها.
كما أنه لا صعوبة لدي في تفهم " الصدمة" التي حصلت لبعض وسائل الإعلام و الروابط الصحفية من النقد اللاذع و المطالبة بتعسير المحاسبة المسطر في بيان إحدي كتل المعارضة الديمقراطية باعتبار أن مثل ذلك متوقع و منتظر عادة من السلطات و الأحزاب الحاكمة و جهات الرقابة أما أن يرد ذلك من أحزاب المعارضة فلم تكن تلك الجهة التي تتعوذ الصحافة بالله منها و لا الباب الذي تتوقع منه رياح محاسبة الإعلام الحر.
ولا أنسي أن "أرفع عمامتي" تحية لموقف الحكومة الذي لم يتجاوز تسجيل الأسف لتكرار الأخطاء المهنية خصوصا منها المتعلق بالركائز الراسيات للأمة الموريتانية كالإسلام و الوحدة الوطنية و الترابية مؤكدا أن مثل تلك التجاوزات لن تستفز الحكومة و مذكرا الإعلاميين بواجب استحضار و "تشغيل" الوازع الإسلامي و الوطني و المهني...
لدي حول الموضوع ثلاث ملاحظات و اقتراحان يستحق كل منها مقالا مسببا و مفصلا لكن إكراهات ما أسميه " الرأي السريع"high way opinion (و الذي يتناسب مع الوقت المخصص من الكتاب للكتابة المساوي للوقت المخصص من القراء للقراءة)، تفرض المرور علي تلك الملاحظات و الاقتراحات "مرور كرام تمبدغة".
و بخصوص الملاحظات فيمكن إجمالها فيما يلي:
أولا:حرية الإعلام هي جوهرة عقد الديمقراطية الموريتانية: فمن المعلوم بداهة و تجربة أن ركائز الديمقراطية ثلاثة: الاقتراع الحر و المباشر و انتظام عمل المؤسسات الديمقراطية كالبرلمان و الأحزاب و النقابات و هيآت المجتمع المدني ثم حرية الإعلام و يكفي أن نستحضر أن بلادنا لا تتصدر قائمة أي من التصنيفات الإقليمية في مجال الديمقراطية و تكريس الحريات غير قوائم تصنيف حرية الإعلام حتي نعلم أن حرية الإعلام هي بحق جوهرة العقد الديمقراطي و يتعين الحفاظ عليها و ترقيتها و مكافأتها...
ثانيا: ملاحظة أن الطلب الإعلامي أكبر بكثير من العرض السياسي و الثقافي:الإعلام كالجسم لا بد له من غذاء و غذاء الإعلام الإنتاج السياسي و الثقافي و حيث أن الأخيرين يشهدان ركودا إن لم أقل " إغماء طويلا" بفعل استقالة " الكثير من القادرين علي التفكير و التحبير و التعبير" و الاستعاضة عنهم بعصابات من "صنعة الإرجاف و الإلحاف و الإسفاف" فإن الطلب الإعلامي أكبر بكثير من العرض السياسي و الثقافي مما ألجأ وسائل الإعلام إلي أكل الغث من الإنتاج السياسي و الثقافي الذي لا يستبعد أن يتخلله شيئ من الإنتاج العنصري و الشرائحي و المناطقي.
ثالثا:عملة الإعلام المغشوشة طردت عملة الإعلام الجيدة: ذلك أن "سيبة" منح تراخيص الصحف و الجرائد و المواقع الألكترونية أغرقت الحقل الإعلامي بالعديد من العاطلين عن العمل منهم من يحمل شهادات علمية و منهم من لا يحمل غير بطاقات الهوية ينقسمون إلي جماعتين جماعة كثيرة العدد من "غير المهنيين الموهوبين" الذين يمتلكون مواهب صحفية أو قدرات قيادية أو ملكات فنية أو شبكة علاقات أخطبوطية قوية تمكنهم من الولوج إلي مراكز الرأي والقرار و انتزاع الأخبار الدقيقة و قد شكل انتماؤهم للحقل الإعلامي إضافة مهمة للقطاع تستحق التحية و التقدير.
و جماعة أخري بلا خبرات و لا مواهب و لا علاقات اغتصبت شرف المهنة فحولتها إلي مهنة للتسول و التزلف و الإفك السياسي و الاجتماعي... مما حدا بالعديد من مهنيي القطاع و شرفائه إلي وضع مشاريعهم الصحفية في الثلاجة في انتظار ظروف أفضل و لا زال مشكورا و مذكورا و مأجورا كثير من أولئك الشرفاء المهنيين و الهواة الموهوبين يواصلون العطاء و "الاحتراق" شأنهم في ذلك كشأن الشعلة و القابض علي الجمر.
و تأسيسا علي الملاحظات السابقة أقترح اقتراحين لتصحيح مسار الحقل الإعلامي الحر و تنقيته من الشوائب التي علقت به حتي يبقي ناصعا رافعا ذكر البلد بالثناء في المحافل الإقليمية و الدولية:
أّ- الحرص علي " حرية صلبة للإعلام" و "مسؤولية ناعمة للإعلاميين": يجدر التنويه بخط عريض و غليظ و بصوت عال و جهوري إلي أن الإعلام الحر أحوج إلي "جزرة" المزيد من التشجيع تقنينا و تمويلا و تكوينا منه إلي "عصا" الصرامة و التطبيق الحرفي لجانب العقوبات من دفتر الالتزامات الذي وقعت عليه المؤسسات الإعلامية في غياب توفير جانب التحفيزات و التشجيعات.
لذلكم فإني أدعو إلي الحرص علي توفير "حرية صلبة" للإعلام الحر: حرية توفر التكوين و تسهل التمويل و توفر مصادر الأخبار و في المقابل أطالب "بمسؤولية ناعمة" للإعلاميين: مسؤولية تتجاوز الصغائر و الأخطاء و تحاسب حسابا يسيرا علي الكبائر و ذلك طيلة الفترة الكافية لاستعادة الجسم السياسي و الثقافي و الإعلامي لعافيته ذلكم أن الإعلام كالإنسان كلاهما ابن بيئته.
ب- مراجعة نظام صندوق دعم الصحافة: و يحسن هنا توسيع قاعدته من خلال إضافة مكونة خاصة بإعادة دمج الصحفيين ليصبح " صندوق دعم الصحافة و إعادة دمج الصحفيين" و ذلك ضمانا للتكفل بإعادة دمج العديد من أدعياء المهنة الذين انتسبوا لها اضطرارا لا اختيارا و ما دفعهم إلي ذلك إلا انسداد الأفق. و يتم ذلك من خلال توفير تمويلات لتوجيهم إلي مزاولة مهن حرة أخري تناسب مؤهلاتهم و مهاراتهم و تضمن لهم الاندماج في الحياة النشطة للمجتمع.
تلكم "متفرقات" حول الجدل المثار حاليا حول ما يسميه البعض " فائض حرية الإعلام" و لا أملك في ختامها إلا أن أقول " صبرا عائلة الإعلام " علي " عداوة الظروف" وشيئ من ظلم أهل السياسة و كثير من صرامة و استعجال القراء، لكن موعد الشرفاء منكم المهنيين و الهواة الموهوبين العاضين بالنواجذ علي الحرية و الكبرياء هو التوفيق و التكريم و المكانة في المستقبل و في ذاكرة التاريخ.