فؤاد البطاينة
ولِدت الدولة الأردنية وولد معها قرار بقائها في غرفة الانعاش ليوم الاستحقاق، لكن الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها الاردن اليوم هي الاخطر كنتاج سياسي يتفق مع المرحلة التي يتطلبها المشروع الصهيوني وهي مرحلة تصفية مكونات القضية الفلسطينية وإنجاز الدور الأردني المطلوب فيها، حيث تُمهد هذه الأزمة لنقطة التقاء فلسطين مع الأردن في عودة مشوهة للأصل الواحد والجغرافيا الواحده بعد فصل مقصود دام قرن من الزمان وعقد.
إذاً، الأزمة الحقيقية التي يمر فيها الأردن اليوم هي في الواقع سياسية محكمة في غاية السوء والصعوبة تأخذ مسارها تحت الطاولة وهو مأسور يحمل أزمته الاقتصادية منزوع الملكية لمقدراته الوطنية وانجازاته المادية ومرتهن بأموال طائله وفي حالة فوضى وتخبط اداري رسمي، واجتماعي شعب، ونظامنا الأردني أصبح يتبع في هذه المرحلة سياسة العيش لكل يوم بيومه بمعزل عن الغد والنتائج، النظام وحكوماته يتجاهلون الحديث بالسياسة ومسئولية النهج السياسي، وقد سبق وتحدث الملك عن ضغوطات على خلفية موقفه السياسي ولم نسمع حديثا عن كيفية التخلص منها، ولا حتى تلويحا باللجوء لخيارات أخرى على سبيل المناورة السياسية، بل يزداد ارتباطا بالمعسكر المعادي، رغم أن أعتى قوة غاشمة لا تستطيع تغيير حاكم حين يكون الشعب معه.
مصير الأردن كدولة وككيان سياسي وشعب في خطر حقيقي وشيك على نفسه وعلى فلسطين، ولم يعد ينقذه سوى التغيير. فنحن في الأردن أمام معركة سياسية مصيرية عنوانها التغيير أو السقوط، إلا أن النظام في إصراره على عدم التغيير طور وسائله في مواجهة الضغوطات الداخلية بما يُعتبر سياسة جديدة سنأتي إليها، يقابلها إصرار من الشعب على طلب التغيير ولكن دون أن يتغير ويغير ما بنفسه من مفاهيم وثقافة هدامه مكتسبة لم يرثها، فالنظام ومؤسساته، والشعب بمكوناته يتمسكان بمفاهيم مؤدية للهاوية. والمقال يقتصر على هاتين النقطتين.
بالنسبة للنقطة الأولى، فإن النظام وحكوماته أصبحوا يتبعون سياسة تقوم على التعامل مع التحديات التي تواجه الدولة ، ومع مطالب الشعب والقضايا المتراكمه، بأسلوب فتح ملفاتها بهدف إغلاقها والتستر عليها لا بهدف معالجتها، وهذا السلوك الخادع هو في سياق الإبقاء على سيرورة النهج الفاسد دون منغصات شعبية، وفي تهرب واضح من مسئولية المستحقات القانونية للجرائم الاقتصادية الخطيرة والفساد في الصف الأول ، والتهرب أيضا من المستحقات الوطنية والجرائم السياسية ذات الصلة بممارسات سلطات الاحتلال على الساحة الأردنية بما فيه المتعلقة ببنود اتفاقية وادي عربه.
والأمثلة على فتح الملفات بغية اغلاقها وإنهاء ضجيج الشارع كثيرة منها جلب المتورط بقضية التبغ والذي كان يشكل فضيحة متحركة للمسئولين الكبار المتورطين بها، حيث انتشى الشارع بجلبه لكن القضية دخلت في ماراثون اداري وقضائي إن انتهى فسينتهى بصك براءة للجناة الرئيسيين، وقبلها قضية قتل القاضي الاردني شهيدا بدم بارد من قبل قوات الاحتلال ، وجريمة سفارة العدو في عمان التي احتفل بها نتنياهو وتم التحايل على غضب الشارع بشروط موهومة، والقضيتان في غياهب ماراثون قضاء الاحتلال دون متابعه.
ومن الأمثلة السياسية، مسألة المستوطنتين الاسرائيليتين الباقورة والغمر في الاراضي الأردنية، فهذه مسألة استحقاق أردني في اتفاقية وادي عربه، وتحت ضغط الشارع تم إشعار الاحتلال برغبة الأردن بوقف العمل بالملحقين الخاصين بالمنطقتين، إلا أننا لم نسمع عن متابعه هذا الطلب وتنفيذه كاستحقاق لا يشوبه شائبة، وهكذا فكل القضايا الكبيرة التي يُعلي الشعب فيها صوته يتم استيعابها والنوم عليها.
أما النقطة الثانيه فهي أن الشعب يواجه قضاياه وسياسات الدولة ومسار التراجع والسقوط وإصرارها على عدم التغيير ، وهو بحالاته المرضية القاتلة له ولقضاياه، إنها الثنائيات ما زالت قائمة بالنفوس وتظهر تحت الطاوله وفوقها ( فلسطيني – اردني، .مسيحي مسلم ، – شمالي – جنوبي – خائن – وطني ) وتعضدها الجهوية والمناطقية التي تظهر بوضوح في خطابنا، بصرف النظر عن أسبابها ومن ورائها من جهات خارجية وداخلية.
إن ثقافة الثنائيات والانتماءات الفرعية وخطاب العشائرية والجهوية وعنترياتها هو بمثابة التحالف الشعبي غير المباشر مع السياسات التي تستهدف الدولة ووحدتها الوطنية، رغم أننا في مرحلة مفصلية لا نتصور فيها هوية تطفو أو تتقدم على هوية الشعب الواحد والوطن الواحد.
وعلى كل مواطن في الأردن أو فلسطين لا يؤمن بوحدة الجغرافيا والتاريخ والأصول والاندماج الحاصل، أن يأخذ بحسابه بأن أي مساس بأي مكون من مكونات القضية الفلسطينية مرتبط مباشرة بالمساس في الأردن والأردنيين، ولن يكون هذا بدوره إلا الفرشة لضياع فلسطين وحقوق الفلسطينيين، فالقضية الفلسطينية بالنسبة للأردن ليست مجرد قضية قومية بل هي قضية وطنية تمس المملكة ومكوناتها السكانية.
ومن هنا فإن الحديث عن الحراك وتأثير الثنائيات عليه يَفرض نفسه، وعلينا أن نفهم بأنه حراك جاء على خلفية فشل النظام ومؤسساته في إحداث التغيير الذي يسمح بإزالة الاختلالات السياسية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية ووقف الفساد كنهج حكم ، ووضع حد لمسار سقوط الدولة لصالح مخطط الصهيونية في فلسطين، وما أريد التأكيد عليه لجميع مكونات شعبنا ولا سيما المكون الفلسطيني بأن هذا الحراك معزول عن الطبقة المتسببة بالاختلالات الكريهة والمستفيدة من الفساد السياسي والإداري والمالي والشريكة فيه ، والتي لا تنتمي إلا لمصالحها .
وبالتالي فإن الذرائع التي يروجها أزلام تلك الطبقة من كلا المكونين ساقطة وتطعن في وحدتنا الوطنية كشعب، وإن محاولات التأثير والاستجابة لها لعزل أي مكون أردني عن هذا الحراك لا حكمة فيه، والمسألة ليست مسألة كم بل مسألة شراكة وطنية لشعب واحد بمصير واحد ووطن واحد في ظرف مفصلي، ولا حظوة ستكون لأي مكون على الأخر في المرحلة التي يخططون لها، ولا ديمقراطية ،بل الكل عبيد في الآلة السياسية والإقتصادية الصهيونية.
وعلى الحكومة أن تتفهم بأن هذا الحراك عفوي وغير مسيس وبلا قيادة يمكن التعامل معها واستيعابها أو اتهامها، وبالتالي فهو بلا ضوابط ترشد خطابه وتوحده وتحميه من الإنزلاق، وليس من الحكمة وأده أو تهميشه، إنه صمام أمان للدولة في ظل الفراغ السياسي المزمن في هذه الظروف، ومن الضروري أن تتفهم الدولة مشروعيته وتتعامل مع إيجابيته ومطالبه.
كاتب وباحث عربي