عبير المجمر (سويكت)
حتي لا يصبح الشعب السوداني كحالمةٍ حتى اذا انتبهتْ، عضّتْ نواجذَها من حرقةٍ ندماً .
إنتفاضة ديسمبر السودانية كما سبق و ذكرنا في مقالات سابقة حققت نجاحاً كبيراً بكل المعايير و المقاييس، و سبق و عددنا إنجازات هذه الإنتفاضة و إيجابيات إستمرارية المظاهرات.
و لكن أخيراً سمعنا بدعوات للعصيان المدني، و مما لا شك فيه أن العصيان المدني و الإضراب العام و غيرها من الوسائل النضالية السلمية مشروعة للمطالبة بالحقوق بدءاً بالمطالب الإجتماعية، و مروراً بالمطالب السياسية في تغيير الأنظمة الإستبداية كما هو الحال في السودان.
لكن كل وسيلة نضال مستخدمة لها خاصيتها و مميزاتها، و السؤال الذي يطرح نفسه : هل العصيان المدني المجرب سابقاً هو الوسيلة الفعالة التي يمكن إستخدامها الآن في الحراك السوداني؟ هل يمكن للعصيان المدني أن يكون الآلية الأكثر فعالية من المظاهرات، و يحقق ما حققته مظاهرات ديسمبر أو أكثر؟ و هل المكان و الزمان الآن في السودان مناسب للتحول من خانة المظاهرات الأكثر فعالية إلى خانة العصيان المدني المجرب سابقاً؟
و الإجابة على هذا السؤال تكون من خلال قراءة عقلانية و منطقية و ذات أبعاد مقارنة بتجربة العصيان المدني التي لم تنجح سابقاً مقارنة بآلان، و لم تحقق ربع ما حققته مظاهرات ديسمبر التاريخية ، و التاريخ السوداني و تجربة العصيان المدني السابقة خير دليل مقارنة بمظاهرات اليوم و إنجازاتها و نجاحاتها.
في هذه اللحظات التاريخية التي يعيشها الشعب السوداني المناضل، و في هذا التوقيت بالتحديد الذي يشهد غليان و هيجان الشارع السوداني بطريقة غير مسبوقة فأن الدعوة لعصيان مدني في ظل المظاهرات التي تشعل الشوارع، و الزحف البشري السلمي بحماس كبير لا مثيل له يجعل من دعوة العصيان المدني في هذا التوقيت بالذات غير موفقة.
لأن من سلبيات العصيان المدني في هذا الوقت بالتحديد أنه سوف يقتل روح الثورة الشعبية، و الإنتفاضة القومية، كما أن العصيان المدني سوف ينفخ الروح في النظام و الأجهزة الأمنية، التي سوف ترتاح نفسياً و جسمانياً بعد أن أرهقها الشعب الذي يخرج صباحاً و مساءاً من مختلف مدن السودانية من الريف و الحضر على حد سواء ، و أصبح الشعب في مسيرته اليومية يعد العدة من مأكل و مشرب، بينما تفتح له أبواب المنازل السودانية حتي يرتاح المناضلون السودانيون و يستجمون ثم يواصلون.
بينما أجهزة الأمن منبوذة و مكروها و تواجه بالشتم و الركل و السب، لأنها سقطت سقوطاً مدوياً في نظر الشعب، و هكذا أرهقت الأجهزة الأمنية معنوياً، و أصبحت تتجاوز الخطوط الحمراء، فتفلتت بصورة واضحه ، قمعت الشعب، و ضربت، و قتلت الشباب، و الأطفال، و الشيوخ بالرصاص الحي عندما وصلت إلى حالة عدم التوازن، الأمر الذي عرى هذه الأجهزة الأمنية و كشفها، و فضح النظام الحاكم دولياً، و أصبح موقفه الدولي حرج حيال إنتهاكات حقوق الإنسان لإستخدامه العنف المفرط، و القتل بالرصاص الحي، و القمع، و الإعتقالات، و مصادرة الحريات، حيث تمكن الإعلام الحر النزيه المستقل من مراقبة و رصد الحدث و التوثيق لهذه الفضائح و الإنتهاكات اللاإنسانية ، و كل هذا بفضل المواطنين البسطاء العقلاء النبهاء الذين جعلوا من ثورة ديسمبر “ثورة التكنلوجيا” مستخدمين الهواتف الذكية لتصوير الإنتهاكات، و الوسائط الإجتماعية لتسليط الضوء على القضية الوطنية الإنسانية .
و هذه الإنجازات و النجاحات التي حققتها إنتفاضة ديسمبر العلامة و المنارة لم تحققها الإنتفاضات السابقة، و لن تحققها دعوة العصيان المدني التي سوف تلزم المواطن ملازمة داره، و بذلك تفضي الشوراع، و تصبح هناك حالة سكون و هدوء في شوارع السودان المختلفة، و هكذا تنطفئ شرارة الغليان و الهيجان التي كانت تعم شوارع السودان فهلعت النظام و أرعبته، و جعلت جهاز أمنه لا تغمد له عين من وسواس إستمرارية غول المظاهرات .
و لكن مع العصيان المدني سوف يعطي جهاز الأمن المنهك فرصة ذهبية يستجمع فيها قواه، و يستجم، و تنفخ فيه الروح، حيث تتيح له فرصة العصيان تجنب الإصطدام مع الشعب، و بذلك يكون موقفه القانوني و الحقوقي لا غبار عليه، و يصبح عنده الوقت الكافي لوضع إستراتيجية إخماد هذه الهبه الشعبية .
و بناءاً على ذلك فأن دعوة الشعب للتحول من خانة المظاهرات الأكثر فعالية إلى خانة العصيان المدني المجربة و الغير فعاله قرار غير موفق.
من جانب آخر محاولة تحريك عاطفة الجيش و القوات المسلحة و الإستنجاد بهم لن يجد نفعاً، فالجميع يعلم أن الجيش و القوات المسلحة هم الدرع الخفي للنظام و أذياله التابعة ، و هم غير مستقلين بل مسيّسين
مئة في المئة.
و من سلبيات دعوات الإستنجاد بهم أنها قد تفتح الأبواب للنظام حتى ينفذ مخططه في إختطاف الثورة الشعبية، و محاولة إمتصاص غضبه عن طريق تشكيل حكومة إنتقالية من هؤلاء، أو أن يقوم الجيش بتمثلية الإنحياز للشعب، و بالتالي يأتي هو عن طريق تخطيط النظام الذي أتى هو نفسه للسلطة عبر الخدعه و الحيلة التي إبتدعها عرابه دكتور حسن الترابي الذي خطط و دبر لتمثيلة ” أذهب إلى القصر رئيساً و سوف أذهب إلى السجن حبيساً”، ثم انقلب السحر على الساحر.
و الجميع بات يعرف أساليب المكر المعتادة من ثعالب النظام الذين إعتادوا التفنن في صنع الأبطال المناضلين من صحفيين، و إعلاميين، و ناشطيين سياسيين، و نشطاء حقوق الإنسان و المرأة، و الفنانين، و بعض مناضلي الفيس بوك، و غيرهم من الذي يتم زرعهم وسط المناضلين الشرفاء حتى ينالوا ثقتهم، و قد تكرر هذا الأسلوب في هذه المظاهرات فوجدنا من يروج لفيديوهات إنحياز بعض أفراد الجيش للشعب، و آخرين لأفراد الأمن الذين أصبحوا يقودون المظاهرات مع الشعب.
و من المؤكد أن من يعرف نظام الإنقاذ جيداً لا يمكنه أن يقع في الفخ، فزمن الضباط الأحرار ولي و راح، والجيش السوداني الحالي مسيس، و من هم خارجه من ضباط مفصولين إضافة إلي الذين أحيلوا للمعاش ينطبق عليهم المثل السوداني الشعبي الذي يقول ( المحرش ما بكاتل).
كما أنه يسهل على حكومة مثل الإنقاذ شرائهم، فهي حكومة تتقن فن شراء الذمم، و لنا أسوة في العديد من الذين باعوا ذمتهم و ضميرهم مقابل المال أو تحقيق شهوة معينة من سلطة و جاه و قد قالها عرابهم الترابي : ” إنها فتنة السلطة و الجاه” ،و في تسريب لمخرجات إجتماعات جهاز الأمن التي كانت قد إنتشرت في وسائل التواصل الإجتماعي رأينا و قرأنا كيف يستخدم النظام السلطة و الجاه و المال لشراء الذمم وشق الصوف.
و لذلك فإن أي محاولة لترويج الجيش و القوات المسلحة و تسويقهم للشعب السوداني لن تنجح لأن أحدي شعارات هذه الثورة الشعبية هي “يسقط يسقط حكم العسكر”..
و كذلك جهاز الأمن حاله من حال الجيش و القوات المسلحة، فالحكومة تمسك بقبضة من حديد، و تصرف أغلبية ميزانية الدولة في تقوية القبضة الأمنية التي هي أحد أهم أسباب بقاء هذا النظام لمدة ثلاثين سنة.
إذن على الشعب السوداني التمسك بإستمرارية المظاهرات حتى لا يعض على نواجذه من حرقة ندماً.
كاتبة سودانية