د. نادية الحكيم
قريبا من الواقع..بعيدا عن السياسة صحيح أن المعركة لم تنته بعد، ولكن الصبح أصبح يأتيك معطرا برائحة انتصار لا يخفى عبقه.تراه في عيون الناس، تقرأه في كلمات خطت على الجدران حتى ولوبخط رديء، ولكنها كافية لاعطائك شحنة من الأمل والتفاؤل، تلمسها في هاجس ملح للجميع للعودة الى الدار حتى وان كانت نصف مهدمة ونصف قائمة، وتستشعره في عودة شبه طبيعية لمسير الحياة في المدارس.. الجامعات.. الأعمال.. في الشوارع والأسواق والتي تعود لتدهشك بغزارة وتنوع بضائعها، لدرجة قد تقع في فخ الشك، بأنك تعيش في بلد خاض ولا يزال يخوض معركة وجودية شعواء من أجل أن “تكون أولا تكون.” تزداد حيرتك حينما تقابلك جماعات لابأس بعددها من الزائرين العرب من لبنان اوالعراق أوالاردن حديثا( بعد فتح معبر نصيب الحدودي بين سورية والأردن) قصدوا سورية إما للسياحة أوللتبضع، لدرجة أن تعليقا طريفا كتب على مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص تدفق الزوار الأردنيين الى سورية (لم نعد نعرف من منا الخارج من الحصار ).
وعليك أن تكتم دهشتك لمرأى فرقا ميدانية طبية تجوب الشوارع لاجراء لقاحات الأطفال لمن فاتتهم الفرصة لأسباب خارجة عن الارادة .أما إن كنت بخصوص قضاء أمر في دائرة حكومية فستستغرب أن الأتمتة وبآخر صيحاتها وتطوراتها التكنولوجية أصبحت أداة العمل الأولى في الادارات.
وعليك ألا تستغرب التوزيع العادل للحصص الغذائية للمواد الغذائية الأساسية وحتى لوقود التدفئة والسيارات بنظام الحصص المستقطعة لكل عائلة كل حسب عدد أفرادها درأء للجشع ولحرمان الفئات المعوزة. حركة دؤوبة في كل زاوية، وعلى كل تفاصيل الحياة تقنعك ايا كانت معتقداتك بأن ما يقال عن ما لا يقل عن خمسة عشر عاما من اعادة الاعمار لتعود البلد الى ما كانت عليه قبل الحرب ليست سوى أحاديث ستذهب أدراج الرياح، لسبب بسيط هوأن السوري بجيناته الاجتماعية ولربما الوراثية يمتلك ملكة التجديد والبناء والتطور، هولن ينتظر البرامج الأممية ولا حتى الحكومية أوالبنكية ليبدأ اعادة اعمار سقف بيته الذي هوى، ويكفي أن ترى المحاولات الفردية للمواطنين لتهيئة منازلهم المدمرة، وإعادة اعمارها حتى بقدراتهم الذاتية البسيطة، لتصل لقناعة تامة أن اعادة الاعمار قد بدأت حتى قبل أن تحط الحرب أوزارها وستكون ثاني الانتصارات والتحديات بعد العسكري ولسبب بسيط وهو أنها احدى المبادىء الراسخة في العقلية السورية، قبل أن تكون سياسية في المحافل الدولية، والتي وبدون شك ستمارس فيها كل أشكال الضغط، الابتزاز، ولوي الأذرع .
ولكن هذا لا يمنع وجود تحديات أخرى جدية تواجه المواطن السوري في حياته اليومية. ولربما أولها غلاء المعيشة وارتفاع الاسعار المشط، امر يتداركه كثيرون بحسن التدبير والاكتفاء بمستلزمات الحياة الأساسية والاستغناء عن الكماليات، والبعض الاخر بتحويلات مالية من الأهل والأقارب ممن هم وراء الحدود والذي يحيلنا موضوعهم الى تحد جديد أصبح يمثل وجعا للشعب السوري أينما كان، وهو التمزق الديمغرافي الاجتماعي والعائلي الذي فرضته ظروف حرب شرسة أنتجت ملايين الأرامل واليتامى وأبناء الشهداء والعائلات الممزقة أطرافها بكل ما يعنيه ذلك من اضطراب للاستقرار المجمتعي والعائلي، عدا عن ملايين المهجرين ليس فقط خارج أرض الوطن بل وحتى في الداخل السوري. فلم يعد غريبا أن تقابل مثلا أبناء عشائر دير الزور يستوطنون أحواز دمشق، أو حتى بظاهرة أكثر طرافة زوال التقسيم السكاني الطائفي المموه والذي كان موجودا قبل الحرب لتجد أن كل الطوائف والملل والأديان مجتمعة ومتعايشة في منطقة واحدة طالما هي أمنة… ورب ضارة نافعة، قد يكون من الاجحاف اسقاط الوضع السوري في دمشق العاصمة، على سير الأحداث في المحافظات والمناطق السورية الأخرى. فدمشق تم تأمينها بشكل شبه كامل اثناء الحرب حفاظا على الدولة ومؤسساتها، مما أدى الى الحفاظ على سيرورة حياة شبه طبيعية فيها وفي المناطق التي بقيت خاضعة للدولة السورية، مقارنة بالمناطق الأخرى التي كانت واقعة تحت مطرقة الارهاب بهدف التدمير الممنهج لسورية.
ولذلك فان التفاوت في ظروف الحياة بين المناطق والمحافظات شيء لا بد من التنويه اليه باعتباره واقع ملموس. دوام الحال هومن المستحيلات السورية، الذي يكاد يكون مبدأ ينقشه السوريون على كل حجر وحقل ومصنع، وفي كل حرفة ومهنة لأنه أولى دروس الحياة يلقنها الأجداد والاباء لكل الأجيال القادمة، مما جعل من تلك الارض خلاقة مبدعة على الدوام حتى في أحلك ظروف الحصار الاقتصادي، الذي عاشته سورية في ثمانينات وحتى تسعينيات القرن الماضي، وفي ظروف استثنائية قاسية وطويلة فرضتها المواقف الوطنية السورية التي لم تركع يوما لأعدائها ولم تتنكر لمبادئها ولم تترجل مطلقا عن صهوة جوادها العروبي الأصيل.
هي دعوة لزيارة سورية وقد يكون من الصعب الان للبعض استقبال الدعوة لمثل هذه الزيارة، فهي بنظرهم فعلا طوباويا كأن تنادي للصلاة قبل موعدها، ولكن عمق الموضوع هوأن زيارة سورية وفي هذا التوقيت بالذات هي فرصة لأي انسان أيا كان وطنه..عاصمته.. قناعاته…مرجعياته الفكرية والسياسية ليشاهد بأم عينه …
كيف تنتفض العنقاء من تحت الرماد .
استقبلتنا سورية بالمطر، وأبت الا أن تودعنا بزخات مطر رقراقة، لتختلط علينا الأمور أهي دموع فراق أم هدية وداع أم تأكيدا أخيرا لنا بأنها ستبقى بلاد الخير الدائم.
كاتبة تونسية