اعل اسويد احمد
قرأت للشنقيطي ثلاث مؤلفات وهم حسب ترتيب القراءة: بحثه عن المفكر محمد عبدالله دراز المعنون بفيلسوف القرآن ثم رسالة تخرجه التي جمعها وزاد عليها في كتاب عن أثر الحروب الصليبية على الخلافات السنية الشيعية و أخيرا الخلافات السياسية بين الصحابة، هذا وقد وصلتني نسخة الكترونية من مؤلفه الأخير المعنون بالأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، متلهفٌ أيما تلهف لقراءته متى ما سمح الوقت بفسحة فسيحة لذلك، فما لمثله يُقرأ على عجل خاصة أن المؤلَّف المذكور ذو عدد لا بأس به من الصفحات، وبما أنه من بين المؤلفات المذكورة قد برزت آراء الشنقيطي أكثر ما برزت في الثالث (الخلافات السياسية بين الصحابة) فهذه محاولة لقراءة فيه واستخلاص لبعض أفكار الشنقيطي.
يذهب الشنقيطي في مذهبه إلى أن إيثار المبدأ على الشخص الصادح به هو الحكمة التي ضلت لقرون خلت من عوام المسلمين بل وكثير من خواصهم، فيقول ما مضمونه إن مكانة الشخص مستمدة من المبدأ فلا يصح تضييع المبدأ مقابل مكانة الشخص المستمدة منه أصلا، ويقول في تلميح على فشل جل الناس في ضبط وموازنة هذه العلاقة (الشخص-المبدأ) ما نصه: إن الاندفاع الهائل في الدفاع عن السلف قد أهدر قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص، فيورد شواهد تاريخية منها ما كان من عمار ابن ياسر قبيل وقعة الجمل وهو يستنفر الناس لموالاة علي ابن أبي طالب ضد عائشة ومن معها يوم سارت إلى البصرة فاعترف عمار بمكانة عائشة ولكنه حث الناس على نصرة علي لأنه رأى الحق معه وهنا مثال من أمثلة كثيرة على إيثار المبدأ على الشخص.
الشنقيطي يذهب إلى أنّ التاريخ الإسلامي يجب نبشه بتجرد ودون تهيُّب حتى تعرف الأمة كيف دخلت الدوامة التي هي بداخلها الآن، الأمر الذي لن يتحقق -حسب الشنقيطي- إلا حين تعرفُ (الأمة) كيف دخلت إلى هذه الدوامة، وهو -دائما حسب الشنقيطي- الخلافات التي دارت بين الصحابة بعد مقتل عثمان، فيقول ما مضمونه أن التاريخ كتبه أصناف من الناس ربما جاء أكثرهم في روايته لما دار بين الصحابة بما كان يتمنى هو أن يكون قد حدث لا بما حدث فعلا، وذالك راجع إلى أن جلهم يُعمل عاطفته في سرده، ثم يميل إلى القول بأن عليا طالب بالخلافة لنفسه وهذا ما جعله يُبطئ مبايعة أبا بكر، وليس عليا وحده بل آخرون منهم على سبيل المثال لا الحصر خالد ابن سعيد الذي أبطأ هو الآخر في بيعته محتجاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم ولاه اليمن ولم يعزله حتى توفي، يُرفق الشنقيطي أن التاريخ يجب أن يُروى بجميع جوانبه أي السقوط و النهوض والخطأ والتوبة والغفلة والإنابة وأن التركيز على الجانب المضيء أي جانب المناقب من التاريخ الإسلامي دون الجوانب الأخرى هو ما حوّل التاريخ من حي نابض إلى تاريخ جامد مقدس يثير الحماس لكنه لا يمنح الخبرة ويحرك الهمة لكنه لا يقدم العبرة يُظهر تقصير الخلف ويُقنطهم من الاقتداء بالسلف، ويرى بعدم جدوائية محاولة ما يُسميه بتحويل الذنب المغفور إلى سعي مشكور، فيقول إن الاعتراف لذوي الفضل بفضلهم لا يتضمن إقرارهم على هفواتهم بل من الواجب تسمية الأمور بمسمياتها فنقول فلان أذنب أو أخطأ حتى ولو كانت له بشارة ضمنية بالجنة كالذين شهدوا بدرا فقال فيهم النبي مخاطبا عمر: ما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وهذه بشارة من نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى فيقول الشنقيطي ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنعيمان ابن عمر الأنصاري أن يجلد حدا لشربه الخمر وهو من شهداء بدر، وأمر عمر بقدامة ابن مظعون لذات السبب وهو بدري، وكذا البدري مسطح ابن أثاثة الذي اشترك في حادثة الإفك بالتقوُّل على عائشةرضي الله عنها، أمثلة كثيرة يقول إنه يُفهم منها أن تلك البشارة لا تفضي إلى شبه عصمة تلقى على هؤلاء بل إلى أن ذنبهم مرجوح مغفور وليس سعيا مشكورا كما قد يروج أو يفهم الكثيرون، وهنا تعود مسألة إيثار المبدأ على الشخص مهما سمى مكانةً، هذا مع اعترافه بأن لأخطاء الأكابر خطرها الخاص لميول الناس لتقليدهم في كل شيء ولكن هذا لا يجعل من عدم ذكر تلك الأخطاء أو تسميتها بغير مسمياتها أو الدفاع عنها هو الحل، فالدفاع عن الهفوات وتبريرها لا يستساغ شرعا ولكن إهدار فضل الأكابر بها لا يستساغ أيضا.
دائما في أصل الدوامة التي دخلت الأمة فيها والتي كان سببها ابتداءً حسب الشنقيطي تبعات مقتل عثمان، يميلُ إلى أن فئة معاوية بغت، وانتصارها كان انتصار مُلك على شرعية وانتصار بغي على عدل كما جاء في منهاج السنة، ويميل إلى القول بأنهم (فئة معاوية) ما كانوا جميعا مجتهدين بل إن فيهم من أراد بخروجه عرض الدنيا والاجتهاد تُشترط فيه إرادة وجه الله بخلاف أهل الجمل الذين خرجوا مجتهدين، وورّد أقوالا كثيرة في ذلك منها قصة ندم عمر ابن العاص الزائد عند وفاته حتى قال له ابنه مالك يا أبتاه تبكي وقد شهد لك رسول الله غير مرة فأجابه بما مضمونه أنهم فعلوا ما لم يكن يجب، وأقوال من قبيل قول حسن البصري: كان الحكمين أبو موسى الأشعري وعمر ابن العاص أحدهما يبغي الدنيا والآخر يبغي الآخرة. وقول عبدالله ابن عمر ابن الخطاب لم أجدني آسى على شيء سوى أنني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي ابن أبي طالب، وأقوال كثير من العلماء في معاوية كالنسائي والدارقطني وغيرهم، ورجّح القول القائل إن مروان ابن الحكم قتل طلحة ابن عبيد الله يوم الجمل وقد كان في جيشه وكذا رجح القول القائل بأنه (مروان) هو الذي غشّ رسالة إلى أهل مصر دون علم عثمان وقد كان كاتبَه، والرسالة كانت سببا من أسباب مقتل عثمان، قصة من بين قصص كثيرة وأقوال بل و نصوص كثيرة أوردها الشنقيطي تدعم ما ألمح إليه من أن انحدار الأمة بدأ من ذلك الخلاف ومن جماعة معينة، كإيراده للحديث الذي نصه: هلكة أمتي على يد غلمة من قريش(صحيح البخاري)
النقاش ومحاججة المخالف عند الشنقيطي يجب أن يكونا بعلم وعدل لا بجهل وظلم فيذهب في ذلك إلى ما مضمونه إن أي تجاوز في المحاججة إلى سب المخالف أو التجريح به لا يعود على موقف صاحب هذا الفعل إلا بالضعف، و يحث على أن إنصاف المبدأ واجب ولكنه لا يتضمن سب المخالف أو نعته بما ليس فيه وإنْ بحجة الانتصار للحق فيقول إن الذب عن الحق ليس مبررا لاقتحام الباطل ولا تجاوز مبدأ العلم والعدل، ويذهب أيضا إلى أن التصدي لمن يلبس الحق الباطل له خاصته فإذا تصدى الجهال لأهل الباطل لا يعود تصديهم على الحق الذي يدافعون عنه بغير التشويه بل وقد ينتج عن ذلك فتنة فيذهب مذهب ابن تيمية القائل: إن أهل الكتاب ألبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم وكثيرا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم ولا يبين حجة الله التي أقامها برسله فيحصل بسبب ذلك فتنة (مجموع الفتاوى)
من أسباب التخلف الذي تشهده الأمة أيضا عند الشنقيطي عدم قدرتها على التكيف مع زمانها فيقول إن عقل الإنسان عادة مسكون بثلاثة أشياء أولها مبدأ (دين أو فكر) يؤمن به وثانيها أشخاص آمنوا بذلك المبدأ وجسدوه يميل إلى تقليدهم، وثالثها وسائل وآليات استخدمها أولائك المجسدون، يميلُ إلى استخدام نفسها بينما يُلمح إلى أن إيثار المبدأ هو المفتاح الأول وأن جيل التأسيس في كل فكر أو دين لا يجب تقديسه بدرجة تزكيته عن خطئ أو زلل فأبسط ما يُكذب ذلك طبيعته البشرية، كما أنه لا يجب الجمود على وسائل تجسيد مبدأ ما مهما أثبتت تلك الوسائل جدوائيتها في زمن مضى وإنما استحداث وسائل جديدة حسب ما يسمح به الظرف الزمكاني.
يحث الشنقيطي على عدم ترك أي من الأفعال أو الأقوال المأثورة لمجرد أن إحدى الفرق التي لا تتفق معنا تأتيها، فيقول إن خلافات كل حزب وشيعته أدت ببعض هؤلاء أو هؤلاء لترك بعض الفضائل المأثورة لا لشيء سوى أنهم رؤوا مخالفيهم يأتونها وبالرغم من وجود أكثر من نص دال على فضل إيتائها، وكذا يلمعُ بخطر تبني ردود الأفعال التي تنبني على فعل المخالف فبذلك قد بدأت طقوس بعض الفرق حتى استفحلت، يقول ابن كثير قد أسرف الرافضة في دولة بني بويه فكانت الدبادب تضرب في بغداد ونحوها ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق ويبكي الناس وتنوح النساء وكثير منهم لا يشرب لأن الحسين مات عطشانا، فلما سمع أهل الشام بهذا اليوم صاروا يلبسون أحسن ما عندهم ويحسنون الطبيخ حتى لكأنهم يتخذونه عيداً.
يعترف الشنقيطي بثقل وطأة تقاليد العرب وعاداتها فيقول، وحتى تخلُّص الصُّحب الكرام منها كان متفاوتا فمنهم من لازمه بعضها إلى حين، ويستشهد بحوادث معلومة كثيرة منها خصومة بعضهم في طريق العودة من غزوة المريسيع حتى قال لهم النبي صلوات الله عليه ما بال دعوى الجاهلية، ومنها قول أبي ذر لبلال والذي قال له النبي على إثره إنك امرء فيك جاهلية، ومنها ما كان من سعد ابن عبادة عندما قال سعد ابن معاذ بقتل ابن أبي فقال له ابن عبادة والله لا تقتُله ولا تقدرُ أن تفعل وغيرها وغيرها
ينتقد الشنقيطي بعض متأخري المالكية فيقول إن بعضهم ما كان يتثبت من قوة السند في روايته بل وأن بعضهم كان يُغلب ضعيف السند على قويه متى ما اتفق مع رأي له أو حجة يريد إثباتها، وأفرد جزءا من ذلك النقد للقاضي ابن العربي أحد رموز المالكية فقال فيه أنه كان حاد الطبع مما أثر على آرائه وفتاويه بل على ما كان يقضي به بين الناس، واستدرك عليه قوله في ابن حزم سخيف في إشبيلية يسمونه ابن حزم.
هذا ما تتوفر عليه ذاكرتي من أفكار وآراء الشنقيطي علها تُعرف الناس به وبفكره أكثر
وكتعليق على الهامش مني شخصيا وأنا الذي لا يفقه شيئا (أقولها عني وعمن سيُريد قولها)، هنالك فرق بين الشنقيطي المؤلف والمفكر والشنقيطي السياسي ربما ستلاحظونه بأنفسكم، وأيضا ربما يناقض أحيانا أسلوبه الذي قال به في نقاش المخالف أو محاججته.