جمال الكندي
تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة بشأن قضية مقتل الصحفي ” جمال خاشقجي ” كشفت لنا العلاقة الإستراتيجية بين أمريكا والسعودية، والتي مهما حدث تبقى لها الأولوية القصوى لدى صانع القرار الأمريكي ؛ وقد برر الرئيس “ترامب” هذه العلاقة بكلمات ذات أبعاد اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، وكشف بأن السياسة السعودية متناغمة من الناحية الاقتصادية والعسكرية مع التوجه الأمريكي في المنطقة .
الرئيس ترامب قالها بصراحة وبدون تورية “لولا السعودية لما بقيت حليفتنا الأولى في الشرق الأوسط على قيد الحياة السياسية وربما الوجودية”، وهو بذلك يحوم حول صفقة القرن التي هي بمثابة هدية كبرى للكيان الصهيوني، وانتكاسة أخرى من الانتكاسات السياسية التي تسجل في قائمة التنازلات العربية أمام إسرائيل.
الإدارة الأمريكية أمام صراع المصالح والأيدلوجيات، حيث إن المجتمع الغربي وعلى – رأسه أمريكا – بني على أساس ثوابت المجتمع المدني المتحرر، الذي يؤمن بحرية الكلمة، وحقوق صاحبها، وهذا الأمر اصطدم بقضية قتل ” جمال خاشقجي”؛ هنا دخلت إدارة الرئيس الأمريكي “ترامب” في صراع مع سلطة التشريع ” الكونجرس″ بشقيه مجلس النواب والشيوخ، وهو الذي يمثل صراع بين منظومة القيم الأمريكية -إن صح التعبير- وبين المصالح الأمريكية السياسية والاقتصادية والعسكرية.
بعد أكثر من شهر اتضحت صورة الخلاف بين الإدارة الأمريكية متمثلة في أذرعها الثلاثة الرئاسة، والخارجية والدفاع، وبين سلطة التشريع والتي يمثلها الكونجرس الأمريكي في التوجه السياسي المتبع بعد مقتل “جمال خاشقجي” مع السعودية سواءً اقتصادياً أو عسكرياً .
تصريح “ترامب ” يضعنا أمام إستراتيجية واضحة وهي أنه لا يوجد في العرف السياسي الأمريكي مصطلح اسمه “منظومة الأخلاق السياسية ” فالسياسة تدار ضمن بند “المصلحة والمنفعة” ، وأي تضارب معها تقدم المصلحة السياسة والاقتصادية، مع وجود صراع بين المنفذ والمشرع وأقصد هنا الإدارة الأمريكية والسلطة التشريعية ،كون الأخيرة صاحبة منظومة الأخلاق والقيم والمبادئ ، وهي مصدر السلطة التنفيذية، السؤال المطروح هنا: هل هذه القيم تطبقها أمريكا مع حلفائها وأعدائها على حد سواء ؟؟ والجواب معروف سلفاً، وهذه الأزدواجية كانت ومازالت أكبر تناقضات أمريكا في المنطقة، وتستغلها كجسر عبور للتدخل في شؤون الدول التي لا تتناغم معها سياسياً وعسكرياً.
تصريح ” ترامب حول مقتل “جمال خاشقجي” لم يكن مفاجئاً ، وإن سبب شرخاً في منظومة القيم الأمريكية، التي هي على الورق فقط ، وفي التطبيق ” استغلال هذه المنظومة من أجل السيطرة على مقدرات الشعوب وتسييرها حسب المصالح الأمريكية “.
“ترامب ” قالها ومن أبعادها الثلاثة السياسة والاقتصادية والعسكرية بأن الحليف السعودي مهم جداً لنا للمرحلة القادمة والحالية ، هذه الإشكالية خلقت تناقضاً بين أمريكا دولة القيم والديمقراطية، وبين أمريكا التي تتعامل مع دول المنطقة حسب المصلحة السياسية والاقتصادية.
من هنا كان الصراع بين المشرع الأمريكي وصاحب السلطة ، وقضية مقتل ” جمال خاشقجي” زادت من فجوة التناقض بين السلطة التشريعية والتنفيذية في أمريكا.
من هذا المنطلق صوت مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع قانون لوقف الدعم العسكري للتحالف العربي في اليمن، كردة فعل على قضية مقتل “جمال خاشقجي” متحدياً مناشدات وزير الدفاع الأمريكي بعدم التصويت ، وهذا بدوره خلق أزمة سياسية جديدة بين المشرع الأمريكي والذي يمثل القيم السياسية التي قامت عليها الولايات الأمريكية المتحدة ،وبين مصالحها وضغوط حكومات الظل، والدولة العميقة التي لا يوجد في قاموسها إلا المصالح، أما القيم الأخلاقية فهي للداخل الأمريكي أو أنها تسير حسب المصلحة الأمريكية فقط .
إن المبادئ والقيم الأمريكية التي تقوم على أساس حقوق الإنسان وحرية التعبير تتصادم من التوجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية لأمريكا العميقة ، فتصريح الرئيس “ترامب” بشأن كيفية التعامل مع قضية مقتل ” جمال خاشقجي” أظهرت لنا من الناحية السياسية أهمية الحليف السعودي، فتصريحه لا يحتاج إلى تفسير، بأن هذا الحليف مهم جداً لمصلحة إسرائيل، بل تعدى ذلك وقال لوجود إسرائيل، وهي علامة استفهام كبيرة تحتاج إلى تفسير؟؟ .
ربما تكون صفقة القرن هي التي يعول عليها “ترامب” لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بتنازلات كبيرة لا تقبلها السلطة الفلسطينية عوضاً عن من هم في غزة ، والمال السياسي يحاول تغير الثوابت الفلسطينية .
عسكرياً يراد من الحليف السعودي أن يكون رأس حربة في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، بإنشاء حلف عربي إسلامي سني لمجابهة إيران عسكرياً ، وهذا ما ترفضه دولُ فاعلة في المنطقة .
أما اقتصادياً فالحليف السعودي مهم جداً ويستخدم في لعبة ارتفاع ونزول أسعار النفط، وهي ورقة أمريكية مهمة تستخدم ضد إيران وروسيا، ومن أجل أمريكا نفسها، وهذا ما قاله “ترامب” عندما وعد بنزول أسعار النفط أكثر عبر الحليف الإستراتيجي في المنطقة .
قضية مقتل “جمال خاشقجي” وما يحصل في اليمن والتدمير الأمريكي الممنهج في سوريا بدواعي محاربة الإرهاب، ربما تحرك منظومة القيم الأمريكية عبر ذراعها التشريعي الكونجرس ، ولكن السؤال الكبير والمفصلي هل تنتصر أمريكا القيم على أمريكا المصالح؟! من هنا نرجع إلى قضية مقتل “جمال خاشقجي ” مرة أخرى التي أخذت مساحةً كبيرةً في الإعلام الأمريكي وكانت المدخل لإظهار الصراع بين منظومة القيم والمصالح الأمريكية، وسنعلم في النهاية لمن الغلبة، وبأي صورة مقبولة لأمريكا سيكون الموقف الأخير الذي سيحاول التوفيق بين المتناقضين.
كاتب عُماني