كمال خلف
يعاني لبنان هذا البلد الصغير والجميل والكبير بتاريخ شعبه ، يعاني من معضلة الواقع وسؤال المستقبل . هل كتب على بلاد الأرز وشعبها المعاناة وانعدام الاستقرار؟ ثمة واقع مليء باللون الاسود القاتم ، واقع محكوم بالأزمات المتلاحقة . لا ينتخب الرئيس إلا بعد أزمة تستمر شهورا عديدة ، لا تجري انتخابات دون أزمة أو أزمات حول قانون الانتخابات وثم حول إجراء الانتخابات . وكذلك الحكومة . حتى اليوم ينتظر اللبنانيون ولادة حكومة ، الشعب اللبناني باغلبيته الساحقة ينتظر ولادة هذه الحكومة ، لأنه يعتقد أنها ستكون مفتاح حل للأزمات ، سوف يصدم اللبنانيون بأن هذا لن يكون حقيقيا .
الاقتصاد اللبناني يعيش مرحلة صعبة ، الحالة المعيشية تزاد صعوبة ، ترتفع الأسعار ، وتنخفض الخدمات ، يصرخ المواطنون يوميا على شاشات التلفزة وفي مواقع التواصل الاجتماعي مطالبين بأبسط الحقوق ” الماء ؛ الكهرباء ، الطرقات ، ” ينظر اللبنانيون إلى الأم الحنون فرنسا وإلى التظاهرات التي انطلقت نتيجة ارتفاع أسعار الوقود والضرائب ، هم يعانون من هذا الأمر بشكل أكبر وافدح، لكن لا أحد يتحرك ، لماذا ؟؟
النظام السياسي في لبنان يمنع هذا النوع من حركة الشعب ، لأن الشعب مقسم وفق تركيبة الطوائف . كيف سيتظاهر السني ضد رئيس الحكومة السني ؟ هذا غير وارد . كيف يتظاهر المسيحي ضد وزير مسيحي ؟ هذا مستحيل . وبهذا الشكل تتراكم الأزمات ، وتتراكم الديون على الدولة .
يتجه لبنان اليوم بشكل سريع وجنوني نحو التدهور . جل ما يقوم به أقطاب السياسة في لبنان هو إطفاء حرائق هنا أو هناك ، تجاوز أزمة أو أشكال وفق مبدأ لبناني غريب يقوم على مقولة ” تدوير الزوايا ” .
ليس هناك ثمة استراتيجيات تضع قواعد ليقوم عليها المستقبل . ليس هناك تصورات تعنى بمعالجة أسباب الأزمات و التطلع نحو موقع وشكل الدولة في السنوات المقبلة . هو توافق على التوافق ، وإذا اختل فثمة تسوية ترقيعية أو ما يشبه حبة” البندول” لتسكين الألم ، الذي سرعان ما يعود منذرا بمرض خطير يفتك بالجسد .
نعتقد كمحبين لهذا البلد العزيز ، أن كل الأزمات التي يعيشها لبنان تعود إلى أزمة النظام السياسي وتركيبة الحكم فيه . إذ لم يطور أقطاب السياسية في لبنان هذا النظام ، ولم يلتقطوا لحظة تاريخية أصبحوا فيها سادة القرار السياسي في البلاد وأنهم قادرون على أحداث التغيرات المطلوبة .
المشكلة تكمن انهم تعاملوا مع اتفاق “الطائف” مطلع تسعينات القرن الماضي بأنه نص قرآني يصلح لكل زمان ومكان . ثمة متغيرات في داخل لبنان والعالم ، ثمة جيل جديد في لبنان منفتح بحكم ثورة الاتصالات والمعرفة على كل ما يحدث حوله ، وكيف تعيش شعوب الأرض و الجوار .
ولهذا كان لابد من معرفة أن اتفاق الطائف وما حمله من تركيبة نظام حكم ، هو صالح لمعالجة مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية مباشرة ، لكنه لا يصلح لتحديات المستقبل ، في عالم يتطور فيه كل شيء.
إن ثقافة الحفاظ على مكتسبات الطائفة وموقعها في النظام السياسي ، هو معضلة تعيق تطور أي نظام حكم في العالم ، والحاجز النفسي لجمهور الطائفة أو المصلحي لفئة قليلة تقود هذه الطائفة ، يجب أن يزول لأن مصلحة الجميع ستكون أكثر ضمانة مع قيام النظام المدني الكامل ، الذي تنظر فيه الدولة إلى الإنسان بصفته مواطنا في وطنه . وحيث تجري عمليات صياغة مؤسسات الحكم على أساس الكفاءة والنزاهة ، وليس وفق محاصصة تشبه الفيدرالية الطائفية ، الخارجة عن ساعة العصر .
نعتقد اسفين أن النظام السياسي اللبناني يتجه نحو طريق مسدود ، وعندما تصل الدول إلى هذه المصير ، فإنها تكون أمام مخاطر التفكك والحروب الداخلية الحتمية ، والتي تفضي بعد معاناة ومأساي لسنوات طويلة إلى نظام سياسي جديد ينبذ خطايا من سبقه . ونرجو أن لا يدفع لبنان هذا الثمن ، فقد دفع ما يكفي من اثمان خلال العقود الماضية .
لذلك نعتقد أن على الطبقة السياسية في لبنان أن تطلق العنان لدراسة حلول غير نمطية ، وأن يفكروا خارج الصندوق . ولا ينقص لبنان العقول لاجتراح ماهو أعمق من التوافقات الموضعية . وبالمناسبة لايحتاج هذا الأمر بتقديرنا إلى إجماع سياسي ، فإن تحمل بعض الأقطاب الأساسيين في لبنان لهذه المسؤولية قد يكون كافيا .
لا تنفع الانقلابات العسكرية في لبنان ، وهي غير محمودة اصلا في العلاقات الدولية ولا تأتي بكثير من النتائج المرجوة ، ولا نقصد في حديثنا عن التغيرات الجذرية هذا النوع من التغيير .
ولكن قد يكون الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي، وهي فكرة أعتقد أنني سمعتها من بعض الساسة في لبنان ، بداية لتفكير جدي في الخروج من المأزق ، وقد يكون هناك أفكار أخرى ، مثل تشكيل حكومة انقاذ وطني مصغرة ، تأخذ قرارات مصيرية ، منها إلغاء الطائفية السياسية عبر كتابة دستور جديد ، وتفعيل القضاء عبر تشكيل لجنة قضائية تعنى بالمحاسبة وتفتح كل الملفات التي يلحق بها شبهة فساد ، ويكون الجميع سواسية أمام هذا القضاء المستقل بالكامل، والذي قد يوصي بتأميم الأملاك من الكسب غير المشروع وغيرها من الإجراءات .
قد يكون هناك حول أخرى ، هذه مهمة اللبنانيين الوطنيين ، وهذه مسؤولية تاريخية .
يجب أن ينتقل لبنان من حالة الدولة المتعبة إلى حالة الدولة الحديثة ، لأنها تتناسب مع تاريخ هذا الشعب ومستوى ذكائه و تحضره، واسهاماته في الثقافة العربية . حمى الله بلاد الأرز .
كاتب واعلامي فلسطيني