خالد فارس
لقد فاتكم قطار الليبرالية الجديدة, ياماكرون, وتأخرت فرنسا عن ركب السائرون فى درب استنزاف الطبقات الفقيرة والمتوسطة. يسعى ماكرون الى انهاء العقد الاجتماعى الفرنسى ذو العناصر المجتمعية, أو الليبرالية الاجتماعية, الى ليبرالية السوق الحر, الذى يتحكم ويقرر فيه الأغنياء مصير كل المجتمع.
أما وقد قرر ماكرون أن يكون الليبرالى الأخير, فانه يعيد التأكيد من جديد أن الشعوب قد ضاقت بها أدوات الضريبة واستنزاف الوظائف العامة لصالح البنوك والصناديق الاستثمارية. أميركا أم الليبرالية, تتخلى عنها لصالح الاقتصاد الوطنى أو القومية الوطنية. الفرق بين ترامب وكاميرون, أن الأول قادر على فرض ارادة سياسية على العالم, وبالتالى يستطيع اخضاع الاقتصاد الى الرغبات السياسية, السيطرة السياسية. أما ماكرون, ليس لديه ما يفرضه سياسيا, لهذا لايجد أمامه سوى الاقتصاد, “اقتصادوية” سياسية.
أشارت وكالات الأنباء من خلال لقاءات ميدانية مع المتظاهرين, أن ظروف العيش الاقتصادية هى التى تمثل الجانب المطلبى, ولكن من متابعاتى للمشهد, تَلَّمست مطالبات تتعلق باطلاق جمهورية فرنسية جديدة, و التى تمثل الجانب السياسى. ماكرون لايريد جمهورية فرنسية جديدة, لأن أصحاب رؤوس الأموال والبنوك والكارتيلات العسكرية لاترى فى جمهورية سياسية مايحقق لها أفضل مما ستحققه لها الجمهورية الحالية. فى المقابل, هناك تيار قوى ينتشر فى أوساط الشرائح الاجتماعية يطالب بتغيير المشروع السياسى للجمهورية الفرنسية.
الفرق بين مشروع جمهورية اقتصادية ليبرالية (ماكرون), وجمهورية سياسية اجتماعية (المجتمع), هو توزيع الثروة, أى اعادة تقييم منظومة الثروة والسياسة.
هناك جانب تكتيكى وجانب استراتيجى فى خطوة ماكرون الأخيرة, فى رفع الضريبة على الوقود. التكتيكى منها, لا أحد يطلب من فرنسا تعويضات أو تسديد أية مطالبات تجاه أحلاف عسكرية أو غير ذلك, وهى اشارة الى ترامب بالتوقف عن مطالبة اوروبا بانفاق مبالغ كبيرة على الناتو وتعويض أميركا عن ما تكبدته خلال خلا أكثر من خمسين عاماً.
الجانب الاستراتيجى, وهو اعادة هيكلة مصادر ريع الدولة الفرنسية, وتغيير فى بنية الانتاج فى المجتمع الفرنسى. الضرائب سوف تزيد من ريع الدولة الفرنسية, ولكنها فى نفس الوقت سوف تؤدى الى دفع القوى العاملة المنتجة الى تغيير فى سلوكها الاقتصادى (الانتاجى), لكى تستطيع تلبية مطالبها والمطالب الريعية للدولة الفرنسية.
عندما وصل ترامب الى الحكم فى عام 2016, حمل راية ما يسمى بالضواحى الأمريكية الفقيرة التى عانت من ويلات النخب الأمريكية الليبرالية. على العكس من ذلك, عندما وصل ماكرون الى الحكم, جاء ليحمل راية النخب الفرنسية ضد الضواحى الفرنسية والفقراء. وهذه المفارقة ليست صدفة, بل هى تعبر عن اتجاهات متصارعة متناقضة فى المدرسة الليبرالية, وتشير الى انقسامات حادة فى داخلها. الى ما ستؤول له هذا الانقسامات؟ الى اعادة توزيع الثروة فى العالم, أى تقسيم للعالم.
ماكرون يريد مشروع النخب الفرنسية, ليبرالية البنوك والسلاح, أن تحدد مصير الجمهورية الفرنسية. لكن, ماذا يريد بالتحديد؟
يدرك ماكرون أن العالم سوف يتعرض الى تقلبات اقتصادية كبيرة, جائت نذرها من تقلبات أسعار النفط , حيث ارتفعت أسعار الخام (نفط برنت) بأكثر من 20%, من 60$ فى النصف الأول من عام 2018 الى 86.07 فى مطلع أكتوبر من العام ذاته.
يضاف الى ذلك, فى الوقت الذى تعانى فيه فرنسا من عجز فى الميزان التجارى, فان تعويض ذلك يتطلب البحث عن مصادر ريع للدولة الفرنسية. أصبحت الدول الليبرالية غير قادرة على تحويل الانتاج, عن طريق رفع معدلات انتاجية الفرد ( بالدولار الأمريكى فى الساعة 2017): فرنسا مايقارب 59.52, أمريكا 63,45, ألمانيا 60.54, بريطانيا 48.49, ايطاليا 47.94, تركيا 36.79, النرويج 80.76, روسيا 23.79, اسبانيا 47.60, ….), لتسديد العجز فى الميزان التجارى, أو مواجهة تقلبات أسعار الطاقة والعملات.
تلجأ الدول الليبرالية الى عمليات ريع, تحصيل أموال من تدفقات نقدية, من عمليات انتاج على شكل استثمارات أجنبية, تتركز معظمها فى الصناعات العسكرية والحربية وصناعة أسواق العملات والمال.
لم يعد الانتاج الصناعى, قادراً على معالجة اختلالات فى المجتمع. تعجز منظومة الانتاج الصناعى عن مواجهة التقلبات الاقتصادية, وازدياد المخاطر على الأرباح, مع تعقيدات التنافس واحتكار الأسواق. لم يعد الانتاج الصناعى العلاج أو الرافعة الحقيقية للتطور.
فالعمليات التى تجد فيها هذه الدول حلولاً لمشاكلها, يكمن فى التحول الى دول ريعية, مع ابقاء الصناعات التى تمثل لها ميزة تنافسية, عسكرية, احتكارية فى السوق العالمى. تلجأ الى الضرائب على الطبقات الفقيرة, صفقات تبادل عملات, استثمارات من دول الخليج النفطية مقابل ترتيبات أمنية وسياسية, السكوت عن جرائم حقوق الانسان والاستغلال والاحتلال (الاحتلال الاسرائيلى مثلاً).
الصراع فى فرنسا يتخذ مساره فى الداخل بين: جمهورية سياسية مجتمعية, تطالب بها الشرائح الاجتماعية المتضررة, وجمهورية اقتصادية ليبرالية, يطالب بها ماكرون ومالكى الثروات والبنوك. ولكن هذه المواجهة هى أيضاً انعكاس للصراع على التقسيم العالمى للثروات, الذى تقوده أميركا ترامب.
كاتب عربى.