الشيخ المامي
القصة: ظل القائد المغولي "تيم أجين" يعارض الهجوم على الدولة الإسلامية طوال سنوات، معللا ذلك بأن الإسلام فكرة، ومن يحارب فكرة كمن يغلق زريبة على عقاب، وحينما أقنعه مجلس (قوريلتاي) بضرورة الحرب مع تتابع هجمات "الخوارزمي" على قوافله أوصى ابنه "كاتوبغا" الذي قاد الحملة بأن من يحارب المسلمين يحارب فكرة وبالتالي ينبغي أن يبدأ بالكتب قبل الفرسان.
المقال: تمر الأزمات العرقية قبل تطورها لحروب في الميادين والشوارع بعدة مراحل على غرار تطور الجنين خلال الحمل ما قبل الولادة، فقبل أن تدخل في طور المعارك تمر بمرحلة أولى هي رفض الواقع المعاش والتذمر منه، وإحساس الحلقة الأضعف من السلم الاجتماعي بالتهميش والغبن، وهنا تكون الحروب صامتة، والكلام فيها بحذر وعلى استحياء، وهي هنا لا ترقى لمرحلة الشرخ ورفض الآخر، ويمكن أن نتفادى الأسوأ خلال المرحلة بإصلاحات جوهرية، وتمييز إيجابي لصالح المهمشين، إضافة إلى ترسانة من الامتيازات الاقتصادية والتعليمية يحظى بها المتذمرون من قبل السلطة المركزية في إطار تصالحي يشارك فيه الجميع ماديا ومعنويا، وفي حالما لم يتم ذلك في وقته المطلوب، تنتقل الإشكالية إلي مرحلتها الثانية، وهذه المرحلة أشد خطورة من سابقتها، فحينها تكون خطوات الرفض عملية والخطاب التحريضي علنيا والاتهامات صريحة، والتخندق واضح، والمسميات بلا مجاز، والأنا والآخر لا توجد أية قواسم يمكن أن يلتبسا من خلالها، وهذه المرحلة لها وقودها ونعاراتها وأسلحتها الخاصة، والمتاجرين بها وقنواتها العابرة للحدود، كما لها عرابوها والنافخون في جذوتها، وخلالها لا بد من إيجاد الحوار الصريح والمتجاوز للعراقيل كي نتجنب الدخول في مرحلة موالية، ثم إن الامتيازات التي يمكن أن تحل الإشكال في المرحلة الأولى لن تجدي فيها نفعا، فأي تنازلات سيتم تنفيذها ستبقي دون المطلوب في نظر المتذمرين، وهنا إما أن ندخل في الحوار بشكل عاجل أو ندخل في المرحلة الثالثة. ولا أحد يمكن أن يحدد عمر هذه المرحلة بشكل دقيق. أما المرحلة الثالثة فهي الأشد خطورة وهي التي تخاض في الميادين والشوارع، ويكون منطق السلاح والدم فيها هو المسيطر، وهنا تصل الشعوب الي مرحلة "الصوملة" وهي مرحلة لها بداية معلومة لكن لا أحد يمكن أن يتوقع متى تكون نهايتها.
تأسست حركة الحر منذ أربعة عقود، وقد تم التعامل مع أغلب قادتها وكوادرها بمنطق بوليسي، كما تم التعامل مع مطالبها بنوع من اللا مبالاة والسخرية، ما جعل الدولة في نظر أغلب "الحراطين" تشكل طرفا في الصراع كان يجب أن ترقى بنفسها عنه وان تختار لنفسها دور الحكم، فسيطرت "البيظان" على مفالك الدولة آن ذاك وانحيازها ضد الحركة ومطالبها العادلة جعلها في محل الراعي الرسمي للاسترقاق، ما سيبدو بعد ذلك بعشرات السنين واضحا وجليا في خطاب حركات التحرر الراديكالية ، ذلك الانحياز هو ما أوصد باب الأمل في وجوه المطالبين بالحرية والمساواة وجعل الإشكال يتجاوز المرحلة الأولى إلى مرحلته الثانية.
صحيح أنه في عهد المقدم "هيدالة" أصدرت الدولة قانونا يمنع الاسترقاق، لكن تطبيق ذلك القانون في مجتمع بدوي تقليدي لا يحترم القوانين ولا يفهم معنى الدولة بما يحمله من دلالات ظل دون المطلوب، ليصبح في نظر الانعتاقيين مجرد حبر على ورق. ويجعل الدولة في محل المتواطئ مع المنظومة الاستعبادية.
وبما أن حركة الحر كانت نواة التحرر الأولى في البلد فقد سيطرت على فصائلها جدلايات استكناه الهوية، بين من يرى أن "الحراطين" جزء من المنظومة "البيظانية" العامة ذات لون داكن، وهم مجموعة "البيظاني" الأبيض و"البيظاني" الأسود (nar bou ngnolle aq nar bou khais). وبين من يرى أن المجموعة جزء من المجموعة الزنجية تمت ممارسة الاسترقاق عليه من قبل "البيظان" في ظرف تاريخي معين، ويجب أن يعود لمكانه الطبيعي، وهم (المتزنجون). وهناك من يرى بأن شعب "الحراطين" عرقية قائمة بذاتها ناطقة بالعربية، ولها هويتها وثقافتها المستقلة، وهي فصيل – ثالث - في الكينونة الوطنية.
وبالطبع فإن لكل فريق حججه وقرائنه المرتكزة على التاريخ والمنطق ، والتي لا تقل عن نظيره قوة. وبالتالي فإن الجدلية تبقى ضمن دائرة الجدليات غير محسومة النتيجة بشكل نهائي.
ما يهمنا في الأمر هو أن حركة الحر "الجيل الأول" انقسمت طرائق قددا، وقد انتهجت الحكومات المتعاقبة على البلد منها مواقف متعددة الأساليب، منها المضايقة، والإشراك، والتدجين، وغير ذلك.
عجز قادة الحر طوال الفترات الماضية أن يحققوا أي نتائج كبيرة في رفع المظالم عن الشريحة، نظرا لأن أهداف أغلبهم كانت تقف عند حدود المصالح الذاتية - حسب الشريحة - ما ترك المرجل يغلي أكثر فأكثر خصوصا مع تزايد النمو العددي للشريحة، ليتولد موقف من أغلب أولئك القادة لا يقل حنقا عن المستعبدين الأول. كما جعل البعض يطلق على بعضهم (عبيد البيظان). وهنا أصبحت الأبواب مفتوحة لدخول (الجيل الثاني) الراديكالي إلى المعترك.
***
يقولون أنه عندما تبدأ الحرب، يوسع الشيطان الجحيم، ومع نهاية ثمانينيات القرن الفائت قادت مجموعات من ضباط الزنوج "البولار" انقلابا ضد نظام العقيد ولد الطائع تم إجهاضه ساعات قبل التنفيذ، وتم التعامل مع قادته بقسوة، أعدم ثلاثة منهم بناءً على حكم محكمة عسكرية، وسجن آخرون في معتقلات لا تخضع لنظم إنسانية، سيتم الإفراج عنهم بعد ذلك بعفو رئاسي، في نهاية ما يعرف محليا بـ(سنوات الجمر). وجنوب النهر أنشأ الناجون من الجحيم، منظمة (افلام) المناوئة لحكم ولد الطائع وللمجموعة "البيظانية" عموما حسب الرواية الرسمية آن ذاك. تلقت المنظمة دعما تاما من السلطات السنغالية، فتح لها قنوات مع بعض الحقوقيين والفاعلين الغربيين، كما كانت من تولى كبر أحداث 1989 الدامية بين موريتانيا والسنغال وما حدث آن ذاك من خسائر بشرية ومادية. تلك الأحداث التي كانت سببا في تهجير مئات الأسر الزنجية التي لا تنتمي - بشكل صرف - إلى موريتانيا. سيتم تنظيم عودتهم وتعويضهم بعد ذلك بدءا من فترة الرئيس سيدي ولد الشيخ وحتى فترة الرئيس الحالي بالتعاون مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إبان تسوية ملف الإرث الإنساني وإصدار قانون العفو، والمصالحة الوطنية.
كان قادة المنظمة يعيشون بامتيازات "لاجئ سياسي" في مختلف دول أوروبا وأمريكا منقسمين إلى ممثليات للمنظمة كل حسب دولته ويمارسون الضغوط من هناك على نظام ولد الطائع، ما ألقى بظلال سلبية أحيانا علي العلاقة بين موريتانيا وفرنسا في ما بات يعرف بقضية الضابط اعلي ولد الداه، كما كان السبب في بحث نظام ولد الطائع عن حضن بديل، حيث انتهى به الأمر إلى أحضان الكيان الصهيوني. الذي استخدم ثقله لوضع كل تلك الملفات في أدراج الأرشيف.
ذهب ولد الطائع وتمت المصالحة الوطنية بشراكة منظمة أممية وفي إطار توافقي. فقد قادة منظمة (افلام) امتيازاتهم في أوروبا، فما عادت هناك أسباب لبقائهم في المهجر. عاد أغلبهم إلى الوطن وانخرط البعض في السياسة وبقي آخرون يحنون لمهجرهم المخملي، وبقيت ملفات الإرث الإنساني في الأدراج، ولم تذهب إلى المفارم. ففرضية استعمالها تبقى قائمة دائما في معجم الموازنات الغربية.
دخل كاتب الضبط بيرام ولد اعبيد الناطق باسم حملة "البيظاني" الزين زيدان مرشح الرئاسة السابق إلى معترك العمل الحقوقي حاملا معه خطابا حقوقيا راديكاليا ومتزعما (الجيل الثاني) من الانعتاقيين، اعتمد ولد اعبيد خطابا "عنصريا" حسب مناوئيه، وتصريحات نارية مستخدما عبارات من القاموس الثوري، ومن التراث الأمريكي ، كالإقطاع وملاك العبيد، والظلاميين والمستنيرين وغير ذلك، تلقى دعوات من بعض الدول الإفريقية وجال في أوروبا وأمريكا، التقى بأيتام ملف الإرث الإنساني الزنجي، فاستوعبوه وتبنو خطابه ولمسوا فيه جالب الإرث الضائع، وعودة المهجر الضائع.
تزعم ولد اعبيد جانبا من "الحراطين" وصنع منهم وقودا لأنشطته، ومتظاهرين في ميادينه، مع محيط خاص من المقربين اعتمد فيه على أفراد من أسرته الضيقة وبعض أعضاء المنظمة الزنجية المناوئة "للبيظان" والمتعاطفين معها. والعائدين من المهجر المخملي حسب ما نشر أحد قادة "الحراطين" المنشقين من حركته.
تأسست حركة (إيرا) على أنقاض منظمة (افلام المهجر) وتم إيعاز تمثيلها في الدول الغربية والافريقية - حسب بعض المصادر - لنفس الأشخاص الذين كانوا يمثلون سلفها – تقريبا - وعادت الامتيازات المفقودة لأصحابها وأكثر بقليل.
اعتمد ولد اعبيد في تسويق شخصه - حسب بعض رفاقه السابقين - على أساليب مدروسة وتحت إشراف خبراء، بنى لنفسه كاريزما خاصة في الهندام والخطاب والحركات والحضور الإعلامي، وطريقة التعامل مع الآخر. أحاط نفسه بهالة لم تكن معهودة في ربعه - حسب ما شاهدت شخصيا - وأصبح في نظر الكثيرين أبرز المطالبين بالتحرر في هذا القرن، كما حصد عددا مقبولا من الجوائز.
قسم بيرام شريحة "البيظان" إلى نوعين: النوع الأول هم من يناصرونه في نضاله، ويغضون النظر عن خطاب الراديكالية الذي يستخدمه، ويطلق عليهم مصطلح "التنويريين" بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية. النوع الثاني ويطلق عليهم مصطلحات كالظلامين والاستعباديين والإقطاعين وملاك العبيد، وهؤلاء هم من يناوئون خطابه، أو يجلسون منه في المنطقة الرمادية.
حظي بيرام برفض واسع من غالبية (البيظان) الذين تربوا في العهد الطائعي وتمت قولبتهم على رفض كل ماله علاقة بمنظمة (افلام) ما جعل وجود "إيرا" في نظر البعض جزء من المشكل وليست جزءا من الحل.
توالت الأحداث وأقدم بيرام على حرق منظومة أمهات الفقه المالكي التي هي مرجعية البلد الدينية، بدعوى أنها ترسخ الاسترقاق. مستفيدا من قطع الرئيس ولد عبد العزيز العلاقات مع إسرائيل ورفع الأخيرة غطاءها عن النظام الموريتاني تاركة المجال للمنظمات الحقوقية الأوروبية التي دأبت على ابتزاز حكومات موريتانيا بملفات الإرث الإنساني كورقة ضغط من أجل أخذ مكاسب أو اتخاذ مواقف، لكن الملف هذه المرة عضد بملفات أخرى كملف الاسترقاق ومخلفاته والعبودية العقارية وزواج القاصر وتنفيذ عقوبة الإعدام، وتهميش الأقليات، (المعلمين) والدولة الدينية وختان البنات وتسمين الإناث، والملفات تتوالى.
أصبح بيرام ظاهرة دولية، واستفاد الكثير من المهاجرين السريين الموريتانين في المهجر من مختلف الشرائح من نفوذه في تسوية وضعياتهم القانونية على الطريقة الممكنة حسب قوانين أماكن إقاماتهم، لكن الملف الوحيد الذي لم يسجل فيه نتائج مرضية - سوى رفع سقف تدويل - هو قضية الحراطين، التي ما برحت تزاول محلها.
امتازت علاقة ولد اعبيد بالنظام الموريتاني بمراحل متعددة من المد والجزر من المهادنة إلى المضايقة والسجن إلى الشراكة وإيجاد المنافس المنشود في الانتخابات الأحادية الجانب.
خلال مقابلة صحفية على إحدى المحطات الإذاعية صرح - لي شخصيا - بأن خطابه الراديكالي كان مرحليا وقد ولى زمنه وأن تلك مرحلة قد انقضت، ولاحظ الجميع تغيرا في حدة خطابه وجنوحه إلى الوسطية والاعتدال. الشيء الذي اصطدم - حسب ما يبدو - برفض في نفوس سلطات نواكشوط.
غيبت السلطات ولد اعبيد في سجونها عن ميادين الدعاية في الحملة النيابية الفارطة تحت يافطة دعوى قضائية مثيرة للجدل، لكن الجمهور انتخبه كنائب برلماني من داخل زنزانته، في سابقة من نوعها في تاريخ البلد. تخلى بيرام عن خطابه الأصولي لكن ذلك الخطاب أصبح منهجا متبعا للأجيال الصاعدة، من الحركة والمتعاطفين معها من محدودي الرصيد العلمي، ومن مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي.
تعددت المنظمات والجمعيات والمبادرات في شتى مناحي الحياة في البلد خلال الفترة الأخيرة، وقد حظيت محاربة الاسترقاق وتبعاته بنصيب الأسد من تلك الفعاليات، أصبح الجميع من مختلف الشرائح محاربا للرق حيث حظي الملف بأهمية في بعض الدول وأصبح نشاطا مدرا للدخل في بلد يعاني أزمات اقتصادية خانقة، وظلت تبعات الرق تراوح مكانها.
شاركت الدولة من ناحيتها وسنت قوانين تجرم العبودية وأنشأت وكالة لمعالجة آثار الاسترقاق. إضافة إلى جملة من الأنشطة الأخرى تصب في نفس الحوض.
من ناحية الترسانة القانونية التي تم سنها على مدى السنوات الماضية يرى الميتر العيد ولد محمدن ولد امبارك رئيس ميثاق الحراطين خلال تصريح له في فيلم تسجلي صدر مؤخرا، أنها ترسانة شبه متكاملة وقد تفي بالغرض المطلوب، لكنه يتحفظ على جدية السلطات في تفعيلها.
الشريحة في عمومها متذمرة، والجميع يشعر بالإقصاء والتهميش، الجمعيات والمنظمات الناشطة في المجال لا تتعدى أنشطتها تصريحات صحفية ومسيرات موسمية، تأخذ فحواها من الوضعية المادية للقائمين عليها.
وكالة التضامن التي أنشأت الدولة لمحاربة آثار الاسترقاق يصدح الجميع بمدى عدم جديتها، وبضعف ما قدمت وتقدم على أرض الواقع. بل إن هناك من يرى أنها أنشأت لمجرد الاستهلاك الإعلامي.
يتفق الجميع على أن هناك مخلفات رق يجب أن تحارب، لكن الناشطين في مجال حقوق الإنسان من أصحاب الرحلات المكوكية ومتصيدي الدعم الغربي والجوائز يؤكدون على وجود عبودية في موريتانيا، وهذا أمر طبيعي، فأنشطتهم مرتبطة بوجود الظاهرة. الدولة من جهتها تؤكد عدم وجود استرقاق على أراضيها، وهو أمر طبيعي أيضا، فمن العار أن تعترف بعبودية على أرضك وأنت في الألفية الثالثة.
الشعب الموريتاني يتفرج على المشهد، بنوع من البرود، أحيانا يصدق هؤلاء، وأحيانا هؤلاء، وأحيانا يكذب الجميع فما عادت غالبيه تثق في أحد..!
الأوروبيون وأمريكا لا تهمهم القضية، كقضية إحقاق حق بقدر ما يتخذونها كورقة يلعبون بها لأهدافهم الخاصة. ظل "الهوتو" و"التوتسي" قبيلة واحدة بحكم التزاوج بين القبيلتين واختلاطهما مع بعضهم البعض والمصالح المشتركة، قبل أن يفرق البرتغاليون بينهم في أوراق الهوية ومنطق الحاكم والمحكوم.
من وجهة نظر شخصية لا أصدق أنه يوجد أي نوع من الاسترقاق -بمعناه الصحيح - علي الأرض الموريتانية، كما أنني أستغرب التصريح بذلك في مؤتمرات دون اتخاذ أية خطوات عملية للكشف عنه. أنت تقول بأن لدي عبيد، أنا أسألك أين هولاء العبيد؟! إن لم تشكف عنهم فأنت شريك في الجريمة، وتجب معاقبتك. أنت هنا مدان في الاحتمالين. إما أنك تتسر على الجريمة، أو أنك تقدم بلاغا كاذبا..!
المشكلة يجب أن تحل ويجب تكاتف الجهود لذلك، يجب أن نتعدى التابوهات والتقاليد. مع كل موجة تحررية يطور المجتمع التقليدي – ذاتيا - من يقف في وجه تلك الموجة ويضاهيها في الأساليب والمقاربات، على غرار تطوير القراصنة للفيروسات في وجه البرامج المضادة لها.
(الجيل الثالث) من الفريقين، يجب أن تستخدم طاقاته في الأهداف الإيجابية بدل أن يستخدمها في غير ذلك رغما عنا، لا يوجد رابح من صدام الإخوة، فالمنتصر سيخسر أخاه، والمهزوم سيخسر أخاه وحربه.
الجيل الثاني من الانعتاقيين كانوا يقبلون المتعاطفين معهم من (البيظان) دون سبر في النوايا ويسمونهم "التنويريين". الجيل الثالث لن يكون كذلك، فباكورة كتاباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي تدل على رفضهم الآخر (البيظاني) بشكل تام ويحتسبون أن تعاطفه معهم مجرد بحث عن الشهرة، أو ركوب للموجة، أو سباحة ضد تيار معين. (الجيل الثالث) من المجتمع التقليدي يحتسب التحرريين مجرد باحثين عن "فيزا" الدول الغربية.
مهاجمة المدرسة "البرامية" للرموز الدينية ذات الغالبية "البيظانية" ومحرقة القرن، أضعفت أقوى الروابط التي تجمع الشعب وهي تلك الدينية. غالبية الشباب أصبح منبهرا بالقيم الليبرلية، وينادي بالعلمانية وهم يلعب على نفس وتر إضعاف الروابط بين الشعب. التذمر من منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تميز الموريتانيين عن غيرهم وضرب عرض الحائط بها مهدد رئيس لبقاء الهيكل العام وديمومته.
النتائج أصبحت ملموسة، وناقوس الخطر قد دق مرارا، فمعظم حوادث السرقة بالاكراه التي يستخدم فيها السلاح الأبيض في مناطق متعددة من نواكشوط، تأخذ طابعا عرقيا غير مصرح به. أصبحت كل الحوادث والمستجدات تلبس لبوسا عرقيا. أصبحت العنصرية البغيضة تفوح من كل الأفواه. بلغ السيل الزبى. أصبح لكل شريحة أحياؤها، وأصبح وجود الآخر فيها في أوقات معينة نوع من المخاطرة.
لقد آن الأوان لمعالجة الملف بجدية في إطار وطني وتنموي يساوي بين الجميع. التدويل لن يفيد شيئا، فالحل يجب أن يكون من الداخل، و(الجيل الثالث) من كلا الفريقين هو الأكثر استعدادا للتخريب، فقد سئم الجميع وما عاد شيء يعجبه، ويجب أن تهيأ له أرضية لا تصلح لغير زراعة السلام.
إن إيجاد إطار توافقي شامل يمكن أن يمثل كافة أطياف شريحة "الحراطين" بغض النظر عن الايديولجية والجهة، وجعله شريكا فاعلا في عملية التسوية، من منطلق التشارك الحقيقي سيجعل المهمة أسهل.
ولعل أقرب الفعاليات الموجودة لهذه الشروط هو (ميثاق الحراطين) الذي يضم جميع ألوان الطيف (الحرطاني) والحقوقي في البلد، كما تنتمي إليه معظم الفصائل، مثل إيرا، ونجدة العبيد، وقدماء حركة الحر، ومعظم الكونفيدراليات العمالية، والسياسيين، والأكادميين وشخصيات وطنية من عرقيات أخرى وغيرهم.
يجب على قادة الميثاق أيضا أن يوحدوا صفوفهم، ويبعدوا عنهم شبح (المواثيق) بدل الميثاق الواحد. ليس المهم من يقود، بل الأهم هو من يجلس خلفه في المقعد. وضع البرامج الواضحة ومناقشة الإشكاليات، وإيجاد الحلول الشفافة وتطبيقها، وترك الكناية والاستعارة أمر مطلوب.
الدولة يجب أن تنأى بنفسها عن دور الشريك وتتبنى مكانا تحكيميا يضمن لها رمزيتها واحترامها.
كما أن تبنيها للمقاربات التي تم الاتفاق عليها، ورصد ميزانيات لتنفيذها، ومباشرة العمل عليها بشفافية، وتفعيل القوانين التي تم سنها أمر لا غنى عنه.
إن المقاربة التنموية هي التي تشكل جوهر الحل، كما أن المصارحة بدل المنافحة، وتقليص الفوارق في إطارين، أحدهما استعجالي والآخر على المدى المتوسط والبعيد، وتفعيل القوانين وتطبيقها على الكل، ذلك ما يمكن أن يجنب البلاد منزلقا ما فتئت الشياطين تأز إخوة المصير له أزًا.
للعبرة: "لدي حلم بأنه يوما ما سيعيش أطفالي الأربعة في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن من خلال أخلاقهم" مارتن لوثر.