زهير أندراوس
تعرّض حجاي إلعاد، المدير العّام لمنظمّة “بتسليم”، مركز المعلومات الإسرائيليّ لحقوق الإنسان في الأراضي المُحتلّة، لحملةٍ سافِرةٍ وسافلةٍ وقذِرةٍ في دولة الاحتلال، بسبب سفره للأمم المُتحدّة والتحدّث في مجلس الأمن الدوليّ عن الاحتلال وموبقاته، ووصل الأمر بالعديد من المسؤولين في الدولة العبريّة لاتهامه بمُعاداة الساميّة، فيما نعت رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، خطابه المذكور بأنّه العار بحدّ ذاته. كإنسانٍ وكعربيٍّ وكفلسطينيٍّ أجد لزامًا على نفسي أولاً التأكيد على أنّ خطوة هذا الرجل في ظلّ تنامي العنصريّة وحتى الفاشيّة بـ”واحة الديمقراطيّة في صحراء الديكتاتوريات العربيّة” (!) تُعتبر بشكلٍ أوْ بآخرٍ، خطوةً مُباركةً، ولكن في الوقت عينه يتحتّم علينا إلّا نمنحها أكثر ممّا تستحّق، لأنّ الحديث يجري عن إنسانٍ صهيونيٍّ يتفاخر ويتباهي بانتمائه لهذه الحركة الكولونياليّة الاستعماريّة التوسّعيّة على حساب الشعب الفلسطينيّ بشكلٍ خاصٍّ، والأمة العربيّة بشكلٍ عامٍ، وباعتقادنا المُتواضِع جدًا لا يُمكِن لكائنٍ مَنْ كان أنْ يكون صهيونيًا وفي الوقت عينه يساريًا بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، ذلك أنّ الصهيونيّة واليساريّة، تسيران بخطٍ متوازٍ ومن غير المعقول، عمليًا وعلميًا، أنْ تلتقيا أبدًا.
***
وإذا نظرنا إلى الأمور بتأنٍ وتروٍ، وامتنعنا عن “الطوش على شبر ماءٍ”، كما يقول المثل العربيّ العّاميّ، نرى أنّ الخطاب الذي كان مليئًا بالمُغالطات التاريخيّة، يصُبّ في نهاية المطاف في صالح إسرائيل وليس العكس، ولكن قبل ذلك، لا بُدّ من التشديد على أنّ الاحتلال الذي تحدّث عنه الـ”يساريّ” الصهيونيّ-الإسرائيليّ، بدأ قبل خمسين عامًا، أيْ أنّ السيّد إلعاد، لا يُقّر بتاتًا بأنّ إسرائيل أُقيمت على أنقاض الشعب العربيّ الفلسطينيّ، ذلك أنّه بالنسبة له، الاحتلال يقتصِر على الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، الأمر الذي يتناقض جوهريًا ومبدئيًا مع روايتنا التاريخيّة، بأنّ فلسطين اغتُصبَت فرادي وجماعات في النكبة المنكودة عام 1948، وهذه المُغالطة التي ساقها الـ”مُعادي للساميّة” تختزِل الجريمة التي ارتُكبت بحقّ فلسطين وشعبها فقط في الضفّة والقطاع، وتتجاهل عن سبق الإصرار والترصّد الأجزاء الباقية من فلسطين، التي أُقيمت عليها دولة الاحتلال، وهذا التوجّه، ربمّا يُعزّز توجّه اليمين الفلسطينيّ، الممثَل في منظمّة التحرير الفلسطينيّة والسلطة في رام الله والقادة الذين يُفاوِضون إسرائيل سرًّا وعلانيّةً، من أجل الـ”حصول” على دويلةٍ منقوصة السيادة في الضفّة والقطاع، وعاصمتها القدس الشرقيّة، ولا غضاضة في هذه العُجالة بالتذكير بأنّ حزب “ميريتس″، الذي يُعتبَر لدى قطاعاتٍ واسعةٍ للأسف الشديد من اليمين الفلسطينيّ بأنّه اليسار الإسرائيليّ، حزب “ميريتس″ يقول في برنامجه الانتخابيّ الرسميّ إنّ قضية اللاجئين الفلسطينيين يجب أنْ يتّم حلّها في الدولة الفلسطينيّة التي ستقوم، بكلماتٍ أخرى، هذا الحزب الـ”يساريّ الصهيونيّ” يتساوَق في موقفه السياسيّ الإستراتيجيّ مع مواقف الرجعيّة العربيّة والغرب المُنافِق، اللتين باتتا تعتمِدان على مُبادرة السلام السعوديّة، التي أصبحت بقدرة غيرُ قادرٍ مبادرة استسلامٍ عربيّةٍ في مؤتمر القمّة في بيروت في آذار (مارس) من العام 2002، والتي رفضتها، وما زالت ترفضها، إسرائيل، رغم أنّها قدّمت لها على طبقٍ من ذهبٍ وثيقة استسلامٍ تشمل التطبيع الكامِل مُقابِل انسحاب إسرائيل المارقة والمُعربِدة بامتيازٍ من الأراضي العربيّة التي احتُلّت في عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967، والمعروفة عربيًا بالنكسة.
***
عُلاوةً على ذلك، وَجَبَ تذكير أصحاب الذاكرة الانتقائيّة والقصيرة، أنّه بُعيد الإعلان عن المُبادرة العربيّة، التي تُصّر دولة الاحتلال على تسميتها بالمُبادرة السعوديّة، قال وزير الأمن الإسرائيليّ آنذاك، بنيامين بن إليعزر في مُقابلةٍ لصحيفة (معاريف) العبريّة، إنّ المُبادرة السعوديّة-العربيّة هي أكبر إنجازٍ حققته الحركة الصهيونيّة منذ الإعلان رسميًا عن تأسيسها في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897، وعلى الرغم من هذا الاعتراف، فإنّ الإستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على عدم التعامل مع أيّ مبادراتٍ أوْ مؤتمراتٍ، وتتبنّى إستراتيجيّة الاستمرار في تهويد الأراضي المُحتلّة، كما أنّ أيّ حديثٍ إسرائيليٍّ عن السلام هو للاستهلاك الإعلاميّ والتضليل لا غير، وأنّ إسرائيل لا تضع اعتبارًا ولا تُقيم وزنًا لأيّ مفاوضات سلامٍ مع العرب أوْ الفلسطينيين، وغنيٌ عن القول إنّ أصحاب المبادرة (المملكة العربيّة السعوديّة) هم أيضًا غير معنيين، وأنّ الحديث عنها هو للاستهلاك العّام فقط، فهم مشغولون بملفات اليمن وسوريّة، والآن أُضيف ملّف قتل وتقطيع الإعلاميّ السعوديّ، جمال خاشقجي، الذي تحولّت قضيته إلى قضية رأي عامٍ عالميٍّ.
***
ولكي نضع بعض النقاط على عددٍ من الحروف نقول إنّ خطاب “رجل السلام” الإسرائيليّ-الصهيونيّ في مجلس الأمن الدوليّ ضدّ الاحتلال المنقوص لن يعود سلبًا على دولة الاحتلال، لأنّه يُقدّم من حيث يدري، وهو يدري جيّدًا، الخدمة لمزاعم إسرائيل الزائفة والكاذبة بأنّها دولة ديمقراطيّة مائة بالمائة، وفي هذا السياق، علينا التوضيح بأنّ الحديث يجري عن تقسيم أدوارٍ في المسرح العبثيّ، الذي يُسّمى جزافًا المُجتمع الدوليّ، فإلعاد يُهاجِم احتلال بلاده للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، واليمين-المركز، هذا إذا سلّمنا بوجود يسارٍ حقيقيٍّ في دولة الاحتلال، يقوم بدوره الطبيعيّ بإخراس وإسكات أيّ صوتٍ يخرج عن الإجماع الصهيونيّ، الذي يرى في الضفّة الغربيّة تحديدًا أرضًا إسرائيليّةً، فيما يُعوّل على تطبيق مُخطّط الجنرال في الاحتياط ورئيس مجلس الأمن القوميّ السابق، غيورا آيلاند، بإقامة دولة “غزّة الكُبرى” في القطاع وفي أجزاءٍ من شبه جزيرة سيناء، والتي سيقوم بحسبه، المصريون بمنحها للفلسطينيين.
***
وأخيرًا، نأسف جدًا، لأنّ قوى فلسطينيّة من طرفي ما يُسّمى بالخّط الأخضر ترى في خطاب السيّد إلعاد خطوةً تستحّق الثناء والتقدير والمديح، تمامًا كما فعلوا عندما توفيّ مؤخرًا مَنْ كانوا يُطلِقون عليه “رجل السلام”، الصهيونيّ حتى النُخاع، أوري أفنيري، الذي كان حتى أخر لحظةٍ من حياته يُشدّد ويؤكّد على أنّه شارك في “حرب التحرير” عام 1948، وهي الحرب التي سبّبّت لنا النكبة، مُتذّرعين، على سبيل الذكر لا الحصر، بأنّ الرجل كان التقى ياسر عرفات، إبّان حصاره في بيروت خلال الاجتياح الإسرائيليّ للبنان عام 1982، وخلاصة الكلام: كفانا عويلاً وتعويلاً على المُبادرات الفارِغة من أيّ مضمونٍ، فالكلام المعسول لصهيونيٍّ في الأمم المُتحدّة، لا يُسمِن ولا يُغني عن جوعٍ، لأنّ مَنْ يُعوِّل على صهيونيٍّ “يساريٍّ” لا يُعوَّل عليه، فمساحيق التجميل الثمينة لن تشفع لإخفاء الحقيقة، ذلك أنّ الإنسان لا يتغيّر، بل ينكشِف، وهذا الكلام مُوجّه للفلسطينيين والإسرائيليين، على حدٍّ سواء.
كاتبٌ عربيٌّ من فلسطين