علاقة الأردن مع صندوق النقد الدولي إلى أين؟ وهل نكث الصندوق بوعده الأخير؟

سبت, 08/18/2018 - 17:46

الدكتور جمال المصري

لم يكن صندوق النقد الدولي بحاجة إلى كل تلك الاحتجاجات والإضرابات التي شهدها الأردن في حزيران الماضي ليكتشف بأن مطالباته وإلحاحه لفرض التدابير المالية والنقدية المتفق عليها مع السلطات الأردنية وفي تحديد السقوف والأطر الزمنية لضمان تنفيذها، قد افتقرت للمرونة واتسمت بتشدد كبير وغير مفهوم أحيانا. وذلك على الرغم من تعاون السلطات الأردنية المتميز والتزامها السياسي القوي والمتواصل لضمان التنفيذ السليم لبرنامجي الصندوق منذ آب 2012. هذا الالتزام الذي أشاد ويشيد به الصندوق قبل غيره في كل بياناته الصحفية وتقاريره حول الأردن، ناهيك عن تاريخ طويل من التعاون والالتزام بدأ عام 1989 وانتهى عام 2004.

لقد تصدرت الاحتجاجات شعارات حادة معارضة للقرارات الحكومية ومنددة بصندوق النقد الدولي. وليس مستغربا أن العديد من الأردنيين يرون صندوق النقد الدولي متغطرسا بسعيه لفرض إرادته على الدول من دون اعتبار كافٍ لظروفها الداخلية ويرى البعض بأنه آداة للهيمنة الغربية يسعى لتغيير العقد الاجتماعي للدول التي تلجأ لمساعداته، ويسخرون من ادعاء الصندوق والمسؤولين الاقتصاديين الأردنيين على حد سواء بنجاح برنامجي الصندوق الآخرين وتحقق أهدافهما.  بل يرون أن اتباع الصندوق قد اورثهم عيشة ضنكا وفقرا مدقعا وحرمهم كسب دخل يكفيهم العوز ويضمن المستقبل لهم ولأبنائهم، وهذه تصورات خلقت كثيرا من الارتباك لدى المسؤولين من الادعاء بأنها إجراءات يفرضها الصندوق حينا إلى أن دور الصندوق لا يتعدى تقديم المشورة الفنية حينا أخر.

وفي خضم تلك الاحتجاجات التي يبدو أن صداها قد وصل الصندوق خرج المتحدث باسم الصندوق، جيري رايس، ليرحب بدعوة الملك عبد الله الثاني لإجراء حوار وطني لمعالجة التحديات الاقتصادية التي تواجه الأردن واصفا اياها بأنها خطوة إيجابية على المسار الصحيح وليعلن أن بعثة الصندوق التي زارت عمان في شهر أيار الماضي أحرزت تقدما كبيرا في مناقشاتها ستتوجه بموجبه بالتوصية لمجلس المدراء التنفيذيين للصندوق باستكمال المراجعة الثانية للبرنامج الذي يدعمه الصندوق وهو ما سيتيح للأردن الحصول على حوالي 70 مليون دولار أميركي. ويبدو أن المتحدث قد حرص على توجيه رسالة إلى الشعب بطريقة غير مباشرة ربما في محاولة منه لتجميل وجه الصندوق الذي يراه الكثيرون وجها قبيحا ولتهدئتهم بإظهار الاستعداد للتعامل بمرونة أكبر.

قد يكون هذا التصريح قد بعث شعورا بالارتياح لدى البعض وخاصة الحكومة الجديدة  وقرئ على أنه تغيير في خطاب الصندوق، وخصوصا بعد استعصاء إقرار المراجعة الثانية للاتفاق التي ذهبت في مناقشات ماراثونية بدأت في شباط من هذا العام و في شهر نيسان على هامش اجتماعات الربيع السنوية للصندوق في واشنطن وأخرها خلال زيارة البعثة للمملكة في شهر أيار الماضي التي استبقها مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي جهاد ازعور بتصريحه بأن بعثة الصندوق لن تقبل بمواصلة مناقشاتها في إطار المراجعة المتعسرة دون اتخاذ الأردن لعدد من الإجراءات المتفق عليها في مجال الإصلاح المالي وأخرى على الصعيد الاقتصادي.

إلا أن الوعد ذاك لم يبر به بعد سبعين يوما من إطلاقه مما ولد الشعور بأنه لم يكن أكثر من سحابة صيف تعاطفية ظهرت في حزيران ومرت وان لا تغيير يرجى، وطرح التساؤل واسعا عما إذا كان الصندوق ما زال ملتزما بما وعد به أو أنه عاد خلال زيارة البعثة إلى المملكة في 16 تموز الماضي لتأكيد شرط إقرار قانون ضريبة الدخل، كما اشيع ويشاع. ويؤكد ما يشاع استباق البعثة لزيارتها بنشر إجابات على ما أسمته “أسئلة شائعة حول الأردن” على موقع الصندوق الإلكتروني بين فيها أن بعثته إلى عمان سوف تعقد مناقشات حول احتمال طلب المملكة تمديد فترة البرنامج لعام أو عامين آخرين، وحول مواصلة المناقشات مع الحكومة الجديدة في أسرع وقت ممكن وتقييم خططها بشأن استكمال المراجعة الثانية. ولم يغفل عن نفي أن يكون الصندوق قد أوصى الحكومة برفع الدعم عن الخبز أو زيادة الضرائب على الأدوية التي تتسبب في رفع اسعار السلع الأولية الضرورية مما يشكل عبئاً على شرائح المجتمع الفقيرة حسب تعبيره.

وجب سرد كل هذا، حتى يمكن توقع توجه الحكومة في علاقتها بالصندوق. حيث يبدو عدم وجود تصور واضح لديها لشكل العلاقة مع الصندوق في المرحلة القادمة. فقد تحاشى الرئيس الرزاز وحكومته الحديث عن او التعليق على صندوق النقد الدولي وبرامجه مع الأردن سواء خلال فترة التكليف، البيان الوزاري، مناقشات الثقة وخطاب الرد عليها وما بعدها. إلا من تصرح يتيم لنائب رئيس الوزراء، رجائي المعشر في وقت سابق لقدوم البعثة الشهر الفائت بأن الحكومة ستناقش احتياجاتها وطروحاتها وستقدم رؤيتها، بما يناسب المتغيرات المحلية، وأنها ستطلب مفاوضات جديدة مع الصندوق.

 من الواضح أن الحكومة تتجه لتمديد برنامج الصندوق الحالي والذي ينتهي العام القادم، وهو توجه لا يسير في الاتجاه الصحيح وسيدفع بنا للفشل مجددا لأسباب تتعلق بعدم تحقيق البرنامج الحالي ولا السابق لأهدافهما بسبب أخطاء البرنامج الحالي من حيث تصميم البرنامج وافتراضاته وأهدافه غير الواقعية واستحالة تنفيذ بعضها (تخفيض المديونية إلى 77% من الناتج) وافتقاره الى حزمة من الإصلاحات الهيكلية الكفيلة بدفع النمو الاحتوائي والخروج من دوامة المديونية والنمو ومعالجة الاختلالات الخارجية ولاعتماده على وصفته العتيدة المُصاحبة لقروضه والتي هي نفسها في كل مكان منذ 73 عاما، تقشّف وتحرير، توصف لأمراض الطلب الكلي والتي لا تشفي بل تزيد المريض اعتلالا اذا كانت أعراض المرض من جانب العرض الكلي وهو المجال الذي ينظر فيه الى الصندوق على أنه غير مختص وقليل الخبرة. وقد يكون من المفيد أن نعيد الى الأذهان تجربتنا مع تدخل الصندوق من خلال برنامج التكيف الاقتصادي الأول عام 1989 الذي سرعان ما توقف بعد أقل من عام على بدايته نتيجة للنتائج الكارثية التي لا يحب الأردنيون تذكرها والتي تعزى إلى التشخيص غير السليم للأوضاع الاقتصادية حينذاك.

أن الانتقاد لبرامج الصندوق ليس جديدا ولسنا هنا بصدد سوق تجارب فشل برامجه في العديد من الدول والانتقادات الواسعة لسياسات الصندوق وبعضها من مسؤولي وتقارير الصندوق نفسه خصوصا فيما بعد الازمة المالية العالمية، بقدر الانتقادات المتعلقة بتجربة الأردن فيما يتعلق بالبرنامج الحالي والسابق له التي تضاف الى مطلب الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً  والنخب السياسية بطريقة حضارية وواقعية خلال الاحتجاجات الأخيرة بتغيير “النهج” و”السياسات الاقتصادية” الخاضعة لإملاءات صندوق النقد الدولي التي قابلها تصريح مثير لرئيس مجلس النواب “أن المجلس لن يذعن لإملاءات صندوق النقد الدولي”. وقد كان الانتقاد والحوار الأردني الحكومي صريحا ومباشرا خلال الجلسات المفتوحة لمؤتمر الصندوق “بناء المستقبل: الوظائف والنمو والمساواة” الذي عقد في عمان في أيار 2014 على مسمع رئيسة الصندوق كريستين لاغارد يمكن تلخيصه بتساؤل رئيس الوزراء عبد الله النسور “كيف تحل مشاكل التنمية والبطالة بدون إنفاق وبغير عجز؟” وتصريحه الشهير “أن ممثلي الصندوق كالمحاسبين، يهتمون بالأرقام، ويركزون على عجز الموازنة وحجم المديونية ونسبة التضخم، ويهملون النمو الاقتصادي والاعتبارات الاجتماعية” ذلك التصريح الذي أثار غضب لاجارد وضيقها بالنقد الذي كان من المفترض أن يأخذه مسؤولو صندوق النقد بكل رحابة صدر ويدونوه جيدًا خصوصا أنه نقد لا ينكره الصندوق نفسه.  ومنذ أيام صرح رئيس اللجنة المالية النيابية النائب أحمد الصفدي إن برنامج صندوق النقد الدولي لم يحقق أهدافه بزيادة الإيرادات وتخفيض العجز والمديونية بينما ذهب نائب رئيس الوزراء الدكتور رجائي المعشر إلى أكثر من ذلك بعدم تحقيق اهداف تحقيق النمـو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية أيضا. أكدت دراسة صادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية أنّ برامج صندوق النقد الدولي التي طبقت في الأردن لم تحقق الأهداف المرجوة وأنه لا تتوافر في جميع برامج الصندوق سياسات اقتصادية ذات بعد تنموي وأوصت الدراسة بإعادة النظر باستمرار تطبيق برامج صندوق النقد الدولي للمرحلة المقبلة، والعمل على إيجاد خطط اقتصادية وطنية بديلة، وهو ذات الموقف في دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الأردني.

فما المطلوب إذن؟: المطلوب إعداد برنامج وطني وذي مصداقية للإصلاح الاقتصادي الشامل قابل للتنفيذ فيكون رافعة لنهضة اقتصادية وتنموية مستدامة كان قد بشر بها دولة الرزاز، على أن يتضمن حزمة إصلاحات وإجراءات تناسب واقعنا وتلبي احتياجاتنا ولا تدخلنا في فرص ضائعة جديدة بالركض وراء وصفات جاهزة سبق وأن تم تجربتها.  ويجب أن يحظى هذا البرنامج الشامل بدعم الصندوق من خلال ترتيب ائتماني جديد يأخذ في الاعتبار التشخيص الدقيق للأوضاع الاقتصادية الحقيقية ويتحاشى أخطاء البرامج الحالية ويتضمن سياسات اقتصادية فعالة تتميز بملكيتها الوطنية وتركز على معالجة الاختلالات الهيكلية من خلال إصلاحات هيكلية تركز على جانب العرض الكلي يتحقق معها النمو الاقتصادي الشامل وتتجاوز سياسات الطلب الكلي التي حالت دون تحقيق معدلات نمو كافية لمعالجة مشاكل الفقر والبطالة والمديونية. ويفترض أن يتم ذلك ضمن علاقة جديدة ومتوازنة تصب في مصلحة الطرفين؛ فهي ستساعد في استعادة الاستقرار والنمو الاقتصادي في الأردن من خلال إصلاحات هيكلية ومالية ملائمة تدعمها تدابير التمويل والقدرة على تحمل الديون المناسبة وفي جذب مزيد من الدعم للبلاد وتعزيز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، أما مصلحة صندوق النقد الدولي فهي في إثبات قدرته على مساعدة البلدان الأعضاء وتعزيز مصداقيته وفاعليته.

ويجب أن يكون واضحا بأنه في الوقت الذي لا يمكننا فيه تحميل الصندوق أسباب الفشل كاملة دون تحمل المسؤولية، فإنه من غير المقبول عزو النجاح في مراحل عديدة من تاريخنا الاقتصادي للصندوق وحده وانكار الذات والجهود الوطنية في أكثر من مجال وإغفال دور العوامل الخارجية المواتية. ولضمان نجاح العلاقة الجديدة مع الصندوق، فإن ما نحتاجه بمنتهى الصراحة هو من يفهم لغة الصندوق ويستطيع محاورته، لا من ينصاع له لاعتقاده واعتناقه الحماسي المقدس لإجراءات لا تحظى بقبول شعبي لمجرد أن الصندوق قد أوصي بها. وهو واقع حزين ومؤلم يجب أن يعترف ويقر به؛ فقد رأيناه جليا في تعامل الحكومة السابقة مع الصندوق وبرنامج التصحيح، مسجلة انتكاسة للسياسة الاقتصادية في فن التفاوض وإدارته وفي غياب المعرفة الفنية. كما أن هنالك حاجة للمهارة السياسية في التفاوض، والتي نراها متوفرة في شخص الرئيس ونائبه، مستفيدين من تجربة رئيس وزراء اليونان، لتسيبراس، في إدارة ملف ديون بلاده باقتدار لتفلت من مخالب الدائنين الدوليين وفي رفضه للهجة التهديد والوعيد والتعالي، وكذلك من تجربة المغرب ومؤخرا الأرجنتين التي استطاعت انتزاع اتفاقا تاريخيا.

إن مساحة هذا المقال ليست كافية لشرح وتحليل أسباب عدم تحقيق برامج الصندوق لأهدافها والذي يلتقي مع نتيجة وانتقادات تقرير الصندوق نفسه حول التقييم اللاحق لبرنامج الاستعداد الائتماني 2012-2015. ولإثبات أن الدين السيادي لم يكن مدعاة للقلق الذي ظل يثار إما من باب عدم المعرفة أو رغبة في التضليل وأنه كان قابلا للاستمرار بدرجة مرضية. وهي عناوين لمقالين قادمين.

* اقتصادي وباحث/ الأردن

الفيديو

تابعونا على الفيس