د. هشام أحمد فرارجة
لا يكاد يمر يوم واحد في الولايات المتحدة في هذه المرحلة دون أن تتكشف خيوط فضيحة أو جريمة جديدة ترتبط بالرئيس الامريكي، دونالد ترامب. فبالفعل، لقد أصبح ترامب ظاهرة اخبارية فريدة من نوعها في التاريخ الامريكي. لقد طغت علاقاته الجنسية، وما قدمه من رشوات مالية قبيل الانتخابات لاسكات من تورط معهن، وما صدر عنه من أكاذيب حول هذه الرشوات، وحول معرفته بطبيعة اللقاءات بين أقطاب حملته الانتخابية وشخصيات روسية لتنسيق المواقف ضد منافسته، هيلاري كلينتون، على الصفحات الاولى لابرز الصحف وفي مقدمات النشرات الاخبارية المذاعة والمتلفزة. وما أصبح غير عادي هو أن يمر يوم واحد دون أن يفاجأ الرأي العام الامريكي بفصل جديد من مسلسل مغامرات ترامب وانزلاقاته.
وكعادته، يبدو أن ترامب قد طوّر قدرا كبيرا من المناعة، البلادة أو اللامبالاة تجاه تضخّم سجل التحقيقات القانونية بأفعاله وأقواله. فتجده مهاجما ومتهما، حتى للجنة التحقيق نفسها، ولرئيسها، روبرت مولار. وتستيقظ من النوم كل صباح لتبحث عن تغريدة جديدة لترامب يتطاول فيها على من لا يسانده. ومؤخرا، ترى ترامب منكبّا على القيام بزيارة عدد من الولايات للالتقاء بقاعدته الجماهيرية، اعدادا للانتخابات التشريعية النصفية في شهر تشرين الثاني المقبل، من ناحية، ولتعبئتهم وشحذ طاقاتهم، تحضيرا لما قد تؤول اليه نتائج التحقيق ضده من نتائج. وفي ذات الوقت، اعتاد الجمهور الامريكي والمراقبون على حالة التخبط التي تعتري تصريحات مسؤولي البيت الابيض بخصوص أفعال ترامب وأقواله، خاصة تلك التي تدلي بها وزيرة الاعلام، سارا ساندارز، حتى لدرجة أن حالة التشكيك بصواب هذه التصريحات لم تعد تفاجئ مسؤولي البيت الابيض أنفسهم.
ولكن أكثر ما يميّز الحالة الانفعالية التي يتّصف بها ترامب هذه الايام ترتبط بانفضاض الوثاق من حوله، تقريبا بالكامل. فهو كان قد فقد علاقته مع أحد أقرب مستشاريه أثناء حملته الانتخابية، ستيف بانين، نتيجة لما أدلى به الاخير من معلومات وآراء وتصريحات فاضحة للمؤلف مايكل وولف الذي نشر مطلع هذا العام كتابه “النار والغضب”. والى جانب بانين، فوجئ ترامب بأن استعدّ مستشاره للامن القومي السابق، مايكل فلين، الذي ادين بالكذب بخصوص تواطؤ حملة ترامب مع روسيا، أن يتعاون مع المحقق الخاص، مولار، وأن يدلي بكافة ما لديه من معلومات عن دور ترامب بهذا الخصوص. وبالطبع، كانت النتيجة هي القطيعة بين ترامب وفلين.
ولكن أخطر ما يواجهه ترامب الآن هو قيام محاميه الخاص لمدة ثلاثة عقود، مايكل كوهين بالانقلاب عليه وكشف أدلة تبدو دامغة للغاية لادانة ترامب. ففي الوقت الذي كان كوهين قد أعلن من قبل أنه مستعد لتلقي رصاصة دفاعا عن ترامب، اّلا أنه يبدو الآن قد وهنت عزيمته ليعلن على الملأ أن كثيرا مما قاله ترامب من قبل ينطوي على أكاذيب كثيرة. فعلى سبيل المثال، كان ترامب قد أكد مرارا وتكرارا أنه لم يدفع أية رشوة لاسكات كارين ماكدوغال، التي أكدت أنه فعل ذلك اسبوعين فقط قبل الانتخابات، وذلك لشراء صمتها على اقامته علاقة جنسية معها. اّلا أن كوهين قد كشف النقاب عن مكالمة هاتفية كان قد أجراها مع ترامب وسجلها له في السابق، والتي يتبيّن فيها بوضوح لا لبس فيه معرفة ترامب بأمر دفع مبلغ 150000 دولارا لاسكات ماكدوغال، بل وبوضعه خطة ملتوية لفعل ذلك.
وقد يكون الاخطر من ذلك هو تلويح كوهين بأنه يمتلك معلومات اخرى لا يمكن الطعن فيها عن معرفة ترامب المسبقة باللقاءات التي عقدت داخل برجه في نيويورك بين أهم أركان حملته الانتخابية، بمن فيهم ابنه دونالد الشاب، وشخصيات روسية لطبخ خطة لتشويه حملة كلينتون الانتخابية واضعافها. وحتى هذا الاعلان من قبل كوهين، يكاد لا يخلو تصريح واحد لترامب لا يؤكد فيه على أنه لا يوجد تواطؤ مع الروس، حيث يعرف هو أن هذه هي أخطر تهمة يمكن أن توجه له، وأن تكلفه رئاسته، اذا ما ادين بها. وفي هذا الصدد، يتّضح أنه سيتم استدعاء أحد أهم القائمين على مؤسسة ترامب، مديرها التنفيذي، قبل أن يتسلم ترامب الرئاسة، ألان واسيلبيرغ، للادلاء بشهادته في قضية كوهين. هذا التطور قد يشكل خطرا حقيقيا على ترامب بخصوص ما قد يكشفه وايسيلبيرغ من معلومات جديدة يمكن أن تجعل ادانته أمرا لا مفر منها. واذا ما جمعنا ما لدى كوهين ووايسيليرغ من معلومات عن فضائح ترامب وخروقاته، فان مستقبله السياسي، بالفعل، قد يكون قد أوشك على مجابهة لحظة الحقيقة.
فترامب يستطيع أن يهرب من الواقع، ولكن فقط الى حين. فدائرة التحقيقات تضيق عليه من كل حدب وصوب، وأركان علاقاته من المخلصين المقربين يتضاءلون من حوله الواحد بعد الآخر. وهذا بالطبع يثير الفزع عند ترامب، رغم محاولاته اخفاء ما يشعر به والتظاهر بعدم الاكتراث.
وهنا يكمن السؤال المهم: كيف لشخص مثل ترامب أن يتصرف ازاء معضلة حياتية من هذا النوع، خاصة اذا ما آلت التحقيقات الى عزله من منصب الرئاسة؟ ففي مقالة نشرت مؤخرا في مجلة بوليتيكو، في السابع والعشرين من شهر تموز، بعنوان “داخل عقل دونالد ترامب” لاستاذة علم النفس التشريحي في جامعة ييل، باندي لي، التي حرّرت كتابا مهما عن ترامب أواخر العام الماضي بعنوان “الحالة الخطيرة لدونالد ترامب”، وللصحفي الذي يعرفه جيدا، توني شوارتز، والذي اشترك مع ترامب في تأليف كتاب “فن الصفقة”، يقول المؤلفان أن ترامب يحاول أن يتظاهر بمظاهر العظمة والفخامة، ولكنه في حقيقة الامر مخادع، ويفتقر الى الشعور بالامان الشخصي. وينبّه المؤلفان أنه على الجميع أن يكونوا حذرين حتى لا يدفعهم ترامب نحو الاصابة بالجنون. في هذه المقالة، تفسّر باندي وشوارتز أن حالة ترامب تتفاقم وتزداد سوءاً بسبب الضغط النفسي الهائل الذي يشعر به نتيجة لاشتداد حدة التحقيقات التي يواجهها. ولذلك، يلجأ ترامب الى الاعتماد على المزيد من الكذب والخداع، وازدياد انعدام مشاعر التعاطف الانساني لديه. هذا الاختلال في شخصية ترامب، يقول المؤلفان، يدفع به أكثر فأكثر نحو العزلة، من ناحية، ونحو النظر الى الآخرين كأدوات استهلاكية مؤقتة. ونتيجة لذلك، تجده ينظر الى كل من حوله، تقريبا، بمن فيهم جمهوريين وديمقراطيين، حلفاء كنديين وأوروبيين، أجهزة الاستخبارات الامريكية، وكذلك الاعلام والمهاجرين، كأعداء يتربصون به السوء. وبناء على فهم المؤلفين لشخصية ترامب المحشور في الزاوية، فان ترامب يقدم على تعريف الحقيقة من وجهة نظره هو، غير آبه بمقتضيات القوانين والاعراف. وكنتيجة لهذه الحالة، فان ترامب يبدو مشتت الذهن، وغير قادر على التركيز لفترة طويلة. وعليه، فان قراراته لا تنبع من تحليل منطقي أو تأمل دقيق لانعكاساتها. فهو غير قادر على احتمال أي قدر، ولو يسير، من النقد. ولذلك، ونتيجة لعدم قدرته على ضبط مشاعره، تجده يتصرف بردات فعل، غاضبا ومهددا بالانتقام.
ولكن أهم خلاصة يخرج بها هذان المؤلفان هي أن الدرجة المستعصية لاعاقة ترامب العقلية، كما يسمّيانها، تجعل من الصعوبة بمكان تخيّل طبيعة الخطوات الكارثية التي قد تنتج عن شعوره باليأس، وذلك بهدف ملء ما يشعر به من فراغ داخلي، واشعار نفسه بالاهمية. وأهم ما يقلق هذين الدارسين العارفين هو أنه كلما ابتعد ترامب، أو أبعد نفسه عن الحقيقة، بينما يواجه المزيد من النقد، والاتهامات والتهديد بعزله، واحتمالات ادانته بجرائم، فانه من المتوقع أن يصبح أكثر يأسا، وأكثر تطرفا في تعليقاته، وأكثر عنفا في تهديداته، والاهم، أكثر تقلبا وتسببا بالدمار نتيجة لافعاله. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استيقظ المجتمع الامريكي مؤخرا على تغريدة لترامب على تويتر، فاجأ فيها حتى الجمهوريين من حزبه، يهدد فيها بأنه مستعد لاغلاق الحكومة الامريكية اذا لم يمتثل الديمقراطيون في الكونغرس الامريكي لاملاءاته بخصوص اقرار مبلغ 25 ميليار دولارا لبناء الجدار الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك.
فكل ما يعني ترامب هو المحافظة على صورته الشخصية المتسمة بالعظمة والعنجهية، والتي يرغب في عكسها للعالم الخارجي، حتى وان أدى ذلك الى وقوعه فريسة لابتزاز الآخرين الذين يتقنون اغداق المديح عليه بالالفاظ، من ناحية، واغراقه في متاهات السياسة، من ناحية اخرى.
خلاصة القول هي أنه كلما اقتربت الحقيقة من عالم ترامب، فانه سيسعى جاهدا للابتعاد عنها وقمعها. وفي ذات الوقت، فان هذا الصراع المرير بين الحقيقة المرة وترامب الذي لا يتقبل النقد قد يتبلور عنه نتائج كارثية للمجتمع الامريكي، ان لم يكن للعالم أجمع. فلا أحد يستطيع أن يتوقّع ما الذي سيفعله ترامب عندما يجابه بالحقيقة بخصوص خروقاته، وفضائحه، وجرائمه. ولكن الواضح هو أن ترامب لن ينسحب من المشهد السياسي دون أن يتسبب بخسائر فادحة، مدوية للآخرين. فلا شعوره المفرط بالعظمة يسمح له أن يقرّ بحقيقة أفعاله. ولا شخصيته النرجسية تسهّل عليه مهمة التضحية بصورته كفرد في سبيل الصالح العام. فبالنسبة له، فان الحقيقة الوحيدة تتجسد في ترامب، وترامب هو الحقيقة بعينها. وبالنسبة له، فان ترامب يستحق أن يكون فرعون زمانه!
د. هشام أحمد فرارجة – استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية