د. طارق ليساوي
تداولت وسائل إعلام تركية و دولية قائمة متلكات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، و القيمة الإجمالية لممتلكات الرجل لاتتعدى 2 مليون دولار، من ضمنها دين بقيمة 434 ألف دولار لفائدة رجل أعمال تركي،و قد أثارت هذه القائمة ردود أفعال متباينة لاسيما في صفوف وسائل إعلام عربية و غربية لا تخفي موقفها المناهض و المعارض لحكم أردوغان و حزبه..
مبدئيا، لا يحق لنا تأييد أو نقذ ممتلكات الرجل، لكن من منطلق الإنتخابات الأخيرة ، والمنافسة الشرسة بينه و بين باقي المترشحين، يجعل من الصعب عليه تمرير معلومات غير دقيقة، فالمعارضة التركية، تملك من الآليات و الإمكانيات ما يؤهلها لكشف زيف تصريحات رئيس الدولة، و إثبات عكس مايدلي به، فتركيا تعرف هامشا واسعا من حرية الصحافة و التعبير، فالمعارضة التركية تملك قنوات و صحف تحتل مكانة سامقة في بنية الإعلام التركي ولها القدرة على التأثير في الرأي العام، وخير مثال على ذلك أن دعوة أردوغان للشعب التركي ليلة الإنقلاب تم بثها في قناة تلفزيونية مملوكة للمعارضة، بل إن المذيعة لم تكن تخفي معارضتها لأردوغان.. لكن المعارضة لا تعني تزييف الحقائق.. ومن غير المعقول ان تسكت المعارضة التركية، على أمر سيمكنها من تحقيق مكاسب انتخابية، فالذمة المالية حصان طروادة في كل تنافس انتخابي…
لكن تركيا أغلبية و معارضة تعطي لنا كبلدان و شعوب عربية درسا في التنافس السياسي الشريف، فتزييف الحقائق للأسف سمة الأنظمة القمعية المستبدة بعالمنا العربي، فنحن لسنا بصدد الدفاع عن تركيا أو أردوغان، فهو يخدم مصلحة بلاده أولا و أخيرا، لكن علينا الإقرار بأن تركيا تصعد بالتدريج إلى نادي القوى العظمي، فتركيا شهدت تحولات سياسية و إقتصادية راديكالية، ما كان لها أن تتحقق لولا تدعيم أسس الحكم الصالح، وتوسيع خيارات الشعب التركي، و جعل الشعب سيد قراره ، و الاحتكام لصناديق الاقتراع ، و جعلها الفيصل في اختيار الحاكم و السياسات العمومية…وكل ذلك تحقق بفعل نظافة يد أولي الأمر،فهم غلبوا مصلحة تركيا ، بدل مصالحهم الشخصية… وحققوا الثراء لغالبية الشعب بدلا من أن يجعلوه حكرا عليهم و على ذويهم..
فالديموقراطية بما تتيحه من آليات المراقبة و التنافس السياسي، ترسخ لمبدأ الشفافية و المساءلة، وتقلص من فرص الفساد و الإثراء بغير سبب، وتدعم الصالح و تدفع الطالح…فمن ينتقد أردوغان على تصريحه بممتلكاته، عليه أن يقارن بينه و بين حكامنا في العالم العربي، فثروات حكامنا تجاوزت سقف المليارات، أو مئات ملايين الدولارات على أقل تقدير، ومن هو هذا الحاكم العربي الذي جعل حجم ممتلكاته إن قل أو كثر متاحا للتداول بكل شفافية، فنحن لانعلم ثراء حكامنا إلا من تسريبات وسائل الإعلام الأجنبية، فحكامنا همهم ليس إدارة شؤون بلدانهم بقدر ما همهم إدارة و تعظيم ثرواتهم، التي جمعت بطرق غير مشروعة، أقلها استغلال النفوذ و توظيف المعلومات التي يتيحها المنصب…
فحكامنا لهم ثروات قارونية، فهذا “الديكتاتور ” و “السلطان العثماني”الذي أقام الدنيا و لم يقعدها ، يعد فقيرا معدوما مقارنة مع ثروات حكامنا المكدسة في بنوك الداخل و الخارج ، فهم يملكون عقارات و يخوت بملايين الدولارات لا يملكها حتى أغنى أغنياء العالم، و لعل المعلومات التي تم الكشف عنها بعد ثروات الربيع العربي، و حجم ثروات حكام ليبيا و مصر وتونس و اليمن و أسرهم و حاشيتهم، خير مثال على حجم الثروات المنهوبة، كما أن تسريبات باناما وويكيلكس كشفت بدورها خفايا الثروات العربية المهربة..
فحكامنا يملكون الثروات الطائلة، وكذلك وزرائنا، فمعظمهم يدخلون للمناصب وهم من متوسطي الدخل، وفي ظرف سنوات قليلة يخرجون و هم من فاحشي الثراء، مع العلم أنهم لم يرثوا ثروات من أهاليهم، فكيف راكموا هذه الثروات..?
بل إن مسؤولي الدولة من الدرجة العاشرة ،يستطيعون تجميع ثروات في وقت قياسي، فمنهم من يحصل على راتب شهري لا يتجاوز 1000دولار، لكن حجم ممتلكاته تتجاوز ممتلكات أردوغان، الذي تولى منصب عمدة إسطنبول مابين 1994 و 1998،ثم رئيسا للوزراء من 2003 إلى 2014، و رئيسا لتركيا من 2014 إلى اليوم… أيها الناس إن هذا الرجل فقير مقارنة بعمدة مدينة مغربية أو عربية..مع العلم أنه حقق معجزة اقتصادية ببلاده ، إذ إرتفع الناتج القومي الإجمالي من 230 مليار دولار عام 2002 إلى أزيد من 830 مليار دولار في مطلع هذا العام ، بمعدل سنوي يفوق 8%، فهل استطاعت أي دولة عربية ان تحقق مثل هذا الإنجاز?
علينا أن نعترف أن الفساد ينخر عموم بلداننا العربية، و أن القطاع الوحيد المنظم و المهيكل في عالمنا العربي هو الفساد، فله شبكات و آليات اشتغال منظمة، و مؤسسات و غطاء سياسي و قانوني في غاية الهندسة، ورقم معاملاته ينمو بمعدل مرتفع وممتد، لذلك فإننا ندعوا حكامنا العرب أن يطبقوا مبدأ من أين لك ? مع العلم أنهم يعلمون حجم الفساد ببلدانهم..
و أستطيع الجزم أن 90 % من الذين يتصدرون المناصب و الوظائف العامة، يراكمون ثروات و مكاسب طائلة بطرق غير شرعية، وذلك راجع لعوامل و أسباب لا تتعلق بالضرورة بضعف الأخلاق أو خيانة الأمانة..لكن الرأس الفاسد لا ينشر إلا فسادا في الأطراف، فالنظافة تبدأ من الرأس، ولايمكن لعاقل أن ينظف أطرافه السفلى قبل أن ينظف أطرافه العليا…
فتركيا نجحت لأن حكامها كانوا أقل تعاطفا مع الفساد، فحتى الجنرالات الذين إنقلبوا على الحكم المدني في فترات مختلفة، وظفوا ورقة مكافحة الفساد للإطاحة بالرؤوس الفاسدة، وتطهير دواليب الحكم من الفساد و المفسدين، للأسف فطغاة تركيا على اختلافهم وتباين عقائدهم السياسية، لكن وحدهم حبهم للوطن و المواطن، وأردوغان ليس إستثناءا من القاعدة، لكن في بلداننا المناصب العمومية مغنما ومصدرا للثراء لفئة غلبت مصالحها الخاصة، على حساب مصالح الوطن وعموم المواطنين، ولايعني موقفنا هذا التعميم فهناك وزراء و قادة شرفاء لكن كما تقول القاعدة الفقهية “الشاذ لا حكم له”…
فبلداننا ينخرها الفساد من الرأس إلى الأقدام، والطامة الكبرى أن ذلك يتم بمباركة و تأييد ضمني من أغلبية المواطنين الذين يعتبرون ذلك ذكاءا و حسن تصرف و اقتناصا للفرص، وبدورهم يودون لو تتاح لهم الفرصة ليحققوا نفس المكاسب، متناسين آن انتهاك حرمة المال العام لا يقل خطورة عن انتهاك حرمة المال الخاص،فبلداننا _حكومات و شعوبا_ متعاطفة مع الفساد و المفسدين، ولا وجود لبلد في العالم أجمع، حقق نهضة و تقدما، في ظل أنظمة راعية للفساد و حاضنة شعبية داعمة للمفسدين، فإن وجد هذا البلد فأرجوا ان تصححوا ضعف معلوماتي?…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي