سارة السهيل
يعيش العالم العربي أزمات اقتصادية خانقة بفعل تأثيرات ما شهدته السنوات الماضية من أتون حروب وصراعات سياسية وعسكرية لا يزال بعضها مستمرا في اليمن وليبيا وسوريا.
استمرار هذه الحروب والصراعات قد يرتبط بمخططات خارجية لتفتيت هذه الدول محل النزاع والاستفادة مما تبقي من ثرواتها الطبيعية، لكنه في المقابل أدى إلى خنق الاقتصاديات في باقي الدول العربية شبه المستقرة سياسيا.
غير ان الدول العربية وشعوبها لم تنتبه الي تأثير هذه النزاعات والحروب علي اقتصاداتها، ولم تقم بأية محاولات للحفاظ على مقوماتها الاقتصادية خلال السنوات القليلة الماضية حتي وجدت نفسها في مأزق اضطرت فيه إلى الغاء الدعم واللجوء لفرض الضرائب والرسوم لجلب الايرادات اللازمة للانفاق الحكومي على البنيات الأساسية للدولة من تعليم وصحة وأمن وغيرها.
فجأة شعر المواطن العربي بان الحكومات العربية تخنقه وتحاصره بالضرائب ورفع أسعار المحروقات والغلاء الفاحش، دون ان تنتبه هذه الشعوب وحكوماتها إلى الخطر الأكبر والمستفحل في المجتمعات العربية والعالمية ممثلة في سعار ثقافة الاستهلاك التي غرس بذور فتنتها الرأسمالية العالمية والعولمة الامريكية.
فهذه الرأسمالية قد غذت النزعة الاستهلاكية لدى شعوب العالم وبثت فيها غرائز الترفيه بكل وسيلة مستخدمة في ذلك حاجة الناس إلى التواصل الاجتماعي والانفتاح على الاخر ومحاكاة تجارب الشعوب والتلذذ بكل ما هو جديد، فتحول انسان هذا العصر منذ تسعينيات القرن الماضي إلى كائن مستهلك لكل شيء في الأرض والفضاء ، مستهلك للزراعة والصناعة والاعلام والفنون وغيرها.
اتجه انسان العصر بفعل الرأسمالية المتوحشة إلى التملك واستخدام اكبر عدد من السلع والخدمات بعد ان غرست فيه قيم مادية جعلته يربط سعادته ونجاحه بهذا الامتلاك والافراط في استخدام السلع والخدمات، وصار كثرة امتلاك السيارات الفارهة وتجديد موديلاتها وتجديد الأجهزة الكهربائية والتكنولوجية مظهرا للعصرية والتقدم ومظهرا للتفاخر الاجتماعي وبرهانا على النجاح والمكانة الاجتماعية بين الاقران في المجتمع.
وهكذا انحصرت السعادة في الماديات الترفية والقيم الاستهلاكية بينما اشتكت الطبيعة من الضغط البشري علي هوائها وسمائها وارضها، وصرخت من استنزاف ثرواتها فعبرت عن ذلك بثقب الأوزون بالعواصف والزلازل والباركين وارتفاع درجة حرارتها نتيجة تلوثها وتغير المناخ المنذر بالمزيد من الكوارث.
هذه الكوارث حذر منه تقرير حالة الأرض 2010 State of the World الصادر عن مؤسسة مرصد الأرض World Watch Institute بواشنطن، والذي أعده أكثر من ستين عالماً ومفكراً، يبين بالأدلة العلمية أن النظام العالمي الحالي القائم على الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية غير قابل للاستمرار وأنه سيؤدي إلى كوارث مدمرة، داعيا لضرورة التحول من ثقافة الاستهلاك الي ثقافة الاستدامة.
ثقافة الاستهلاك
وقد تفاعل المفهوم الاستهلاكي المفرط مع عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية حتى صار ثقافة يومية معاشة نمارسها كشيء طبيعي كما نشرب الماء ونتنفس الهواء، كما صار جزءا رئيسيا من اقتصاديات الدول وركائزها السياسية معتمدا في ذلك على دور الاعلام في بث ثقافة الاستهلاك عبر إعادة تشكيل وعي جماهيره العريضة شرقا وغربا بحاجاته المتجددة للتغيير والتحديث.
فقد غذت الرأسمالية مفهوم الحاجة المستمرة لانسان العصر، والنزوع المتجدد للاستهلاك وخلقت بداخله الدوافع لاشباع الاحتياجات الكثيرة التي لا تنتهي حتى بات الاستهلاك عنصرا رئيسيا في منظومة حياتنا اليومية.
فلا غرابة امام عبقرية الرأسمالية المتوحشة ان تستثمر كل مناسبة في حياة الانسان لتحولها الي سلعة وتجارة موظفة قدراتها علي الضغط بالميديا والاعلان الجذاب، مثل الأعياد الدينية وأعياد الميلاد وطقوس الزواج والانجاب ومواسم الربيع، واستحدثت المهرجانات للاحتفال بالطبيعية واستحدثت كوسام دخول المدراس والاجازات الصيفية وغيرها لشراء المزيد من السلع والحصول علي كل خدمات الترفيه والتسلية.
وللأسف فان العولمة الاقتصادية، قد حولت كل الكماليات في حياتنا الي ضروريات ولكي يحظى الانسان بالمزيد من المال لإشباع هذه الكماليات فقد اضطر للعمل ساعات اكبر وجهد مضاعف علي حساب صحته وراحته النفسية والعصبية لتوفير نفقات هذه الكماليات وتغطية نفقات هذه الثقافة الاستهلاكية.
تطوير واستنزاف
لا يكف المنتجون والمصنعون عن تطوير منتجاتهم بإضافة بعض التعديلات عليها، وتدور حلقة جديدة من ماكينات الداعية للمنتج المطور والجديد، ولا تكف أيضا المجتمعات الاستهلاكية عن مواكبة التحديث وشراء السلع المطورة علما بأن المنتج نفسه في صورته القديمة لا يزال يعمل بكفاءة عالية.
فما ان يظهر موديل لأحد ماركات السيارات حتي يسارع البعض بشرائه رغم انه يركب سيارة موديل العام الفائت، وما ان نشتري هاتف خلوي من احدث الموديلات حتي يظهر تحديث له في موديل جديد حتي نسارع أيضا بشرائه بفعل تفنن أساليب الدعاية بمميزاته وخصائصه، وهوما يسري كافة السلع والخدمات التي لا نكف عن شرائها ربما في أكثر الأوقات لا نحتاج اليها فعليا سوي للهاث وراء كل جديد والتباهي في المجتمع بين الاقران.
تأصيل النزعة
أرجع الباحثون في علوم الاجتماع والاقتصاد جذور الثقافة الاستهلاكية إلى أوربا في القرن السابع عشر حين توسع إنتاج السلع نوعاً وكماً، وبدأ البحث عن أسواق جديدة لفوائض الإنتاج، ومع بداية القرن العشرين صار الاستهلاك جزءاً مهما في تحقيق المكاسب والثروات للشركات والحكومات، وساهمت المخترعات الجديدة في مجال التكنولوجيا والاتصالات كالتلفزيون والإنترنت في النصف الثاني من القرن على نشر هذه الثقافة في جميع أنحاء الكوكب الأرضي.
ونظرت الحكومات الاوربية في أربعينيات القرن الماضي الي الاستهلاك بوصفه محرك رئيسي في تحقيق النمو الاقتصادي، فاتجهت الولايات المتحدة الأمريكية عقب خروجها من الحرب العالمية وكسادها التجاري والاقتصادي الي رفع سقف الإنتاج لتعويض الخسائر وتعظيم الاستهلاك فحولت عملية بيع وشراء المنتجات إلى طقس مقدس، ونشرت قيم الثقافة الاستهلاك وغزت بها العالم.
ففن الدعاية الأمريكية نجح في اختراق عقوق ووجدان البشر وسيطرت به علي حركة التجارة العالمية ونشأت التجارة عابرة القارات عبر عولمة زادت فيها الدول الكبرى ثراءا ونفوذا سياسيا واقتصاديا بفعل كثرة انتاجها بينما تحول باقي سكان العالم الي مجرد مستهلك لما تنتجه الدول الكبرى، وخرجت شعوبها من دائرة الإنتاج الي دائرة التلقي والاستيراد والاستهلاك.
وصار انسان هذا العصر أمام وحش الدعاية في هذه القرية الكونية ضحية الاغواء بالسلع وفق نظرية الالحاح حتي يخضع الزبون لتأثيرات المنتج عاطفيا وسلوكيا، وصدق الأثر الشعبي القائل ” الزن علي الودان أمر من السحر ” هكاذ يفعل أساطين الدعاية في ممارسة التأثير بالإغواء علي الجماهير حتي يقبلوا علي شراء سلعهم التي لا تنتهي بخلق حالة من الشغف بالسلع وإقامة مهرجانات للتسوق شهيرة في العالم ليصبح التسوق وفنونه رمزا من رموز العصر لا يمكن تجاهله، لكنه في النهاية يخلق مزيد من النزعة الاستهلاكية بعد اشعار الانسان بجوعه وحاجته الضرورية لاشباع هذه الجوع بتملك السلعة ليحقق من وراء ذلك أيضا اشباعا موازيا لحاجة الفرد الي تعزيز مكانته الاجتماعية التي يصنعها لنفسه بهذا التملك ونظرة المجتمع اليه بقدرته علي منافسة الاخرين في اقتنائها حتي ولو اقترض من البنوك لتحقيق هذا الهدف الاستهلاكي الاجتماعي.
أزمة التلقي
لاشك ان مفهوم السوق الحر الذي اعتمدته العولمة الاقتصادية حققت ثروات هائلة للدول الكبرى والشركات متعدية الجنسيات التي سيطرت بسلعها ومنتوجاتها علي السوق العالمي بينما أثرت سلبا علي الدول التي تعتمد علي الاستيراد، وهذا يعني ان هذه الدول ومنها عالمنا العربي قد توقفت فيها حركة التطور الصناعي والتجاري ولم تستطع مجاراة العصر في تحدياته التكنولوجية ومنجزاته العلمية والاقتصادية، ناهيك عن تأثير ذلك علي معدلات النمو الاقتصادي ببلدان العالم النامي ومنه منطقتنا العربية التي تقلص انتاجها وأصابته نيران البطالة في صفوف شبابها فتهاوت ميزانياتها واحتاجات للقروض الخارجية لتمول النقص في عجز ميزانياتها.
التأثير الاجتماعي
للأسف الشديد فان ثقافة الاستهلاك اثرت تأثيرات سلبية خطيرة علي المجتمعات خاصة مجتمعاتنا العربية سواء علي الاقتصادي او الاجتماعي معا، حيث تسببت ثقافة الاستهلاك الي خفض معدلات الادخار ومن ثم تقليص مساهمات افراد المجتمع في تحقيق المشروعات التنموية مع حكوماتها، كما أدي ذلك الي تقلص حركة التجارة الداخلية نتيجة نقص السيولة النقدية بين افراد المجتمع.
ونجم عن انخفاض الدخل المادي عجز الكثير من الاسر عن الوفاء بالتزاماتها المعيشية واعبائها اليومية مما أدي تباعا الي تعميق الخلافات الاسرية وتعرض رب الاسرة الي الملاحقات الأمنية لعدم قدرته علي سداد مديوناته مما يؤدي لتشتت أفراد أسرته.
بل ان بعض الإباء قد هربوا من زوجاتهم وابنائهم لفشلهم في تغطية نفقات المعيشة، وانتشرت حالات الطلاق الناتجة عن هذه الازمات المالية في الكثير من البلدان العربية.
وخرجت العديد من الدراسات التي بحثت تأثيرات الافراط في الانفاق وانتشار ثقافة الاستهلاك وخلصن في مجملها الي ان ثقافة الاستهلاك قد أدت الي انتشار الجرائم سواء بين الطبقات الغنية او الفقيرة، في مصر تسببت ثقافة الاستهلاك وشراء الام للعديد من الأجهزة الغير ضرورية لتزويج ابنتها في دخول الالاف منهم أروقة السجون بتهمة عدم قدراتهن علي دفع المستحقات من الشيكات التي وقعن عليها وهو يطلق علهين باسم ” الغارمات ” وهو ما حدا بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الي التكفل بسداد هذه المستحقات من صندوق تحيا مصر وإخراج هذه الأمهات الغارمات من السجون.
وحتي في البلدان العربية التي تمثل دخول الافراد فيها أعلي النسب عالميا مثل الامارات والسعودية وغيرهما، فان الكثير سكانها يعانون من الشراهة في الاستهلاك هو مرض العصر، ولم تفلح ارتفاع متوسطات رواتبهم في سد تنامي إشباع احتياجاتهم فلجأوا الي الشيكات البنكية لاستكمال دفع نفقات هذه الاحتياجات وعجز الكثيرون عن الوفاء بسداد هذه الشيكات فبرزت ظاهرة الشيكات المرتجعة في الخليج.
عجز الكوكب
كشفت الدراسات العلمية عن حقيقة ان الأغنياء مسؤولون عن جزء كبير من الاستهلاك وومن ثم فإن ضررهم البيئي أكبر بكثير. تذكر الدراسة أن 500 مليون شخص غني (أي 7% من سكان الأرض) مسؤولون عن إنتاج 50% من غازات ثاني أكسيد الكربون في العالم، في حين أن 3 بليون الأفقر ينتجون فقط 6%. وذلك بسبب استهلاك الأغنياء ي كميات أكبر من الكهرباء والطعام ويشترون المزيد من السلع الخدمات.
في الدول الغنية حيث الاستهلاك هو نمط الحياة السائد يعيش فقط 16% من سكان الأرض، فنسبة الأغنياء في العالم 16% من سكان الأرض واستهلاكهم يصل إلى 78%! من الاستهلاك العالمي، وتتصدرهم الولايات المتحدة بنسبة 32% من الاستهلاك العالمي رغم ان تعدادهم لا يتجاوز 5% من سكان الأرض.
اما الدول النامية تنظر إلى الدول المتقدمة على أنها مثال وقدوة وتحاول أن تحذو حذوها وتتبنى نمط معيشتها، وهنا فان الدراسة تحذر من انه لو أتيح لجميع سكان الأرض العيش بنفس نمط الحياة الأمريكي، فسنكون وقتها بحاجة إلى خمسة أو ستة من كواكب الأرض لكي نلبي احتياجاتهم، وذلك لأن كوكبنا سيكون عاجزاً عن تأمين الموارد الكافية لجميع سكانه.
تضامن انساني
في تصوري ان سكان الكرة الأرضية خاصة عالمنا العربي في ما يعيشه من حروب وازمات اقتصادية خانقة مطالبون الإسراع لإنقاذ كوكبنا من الإفلاس ومن تقلص ثرواته وخيراته عبر الترشيد في استخدام هذه الثروات.
وأن الحاجة هي أم الاختراع كما يقال في الأثر الإنجليزي، فاننا بحاجة التي تبني منهج علمي وعملي عالمي لنشر ثقافة الترشيد والاعتدال في كل شيء من مأكل وملبس وسلع وخدمات.
وانني لأدعو كبار مفكرينا ومثقفينا لوضع برامج لتكثيف الوعي بأهمية ضبط إيقاع الاستهلاك والتحذير من عواقبه السياسية والأمنية والاقتصادية، وان تتكاتف كل المؤسسات العربية ومنظماتها بجانب مؤسسات المجتمع المدني في عالمنا العربي وكذلك وسائط الاعلام بكل ادواتها المقروءة والمسموعة والمرئية في نشر الوعي بترشيد الاستهلاك وضغط النفقات وإبراز الازمات الاقتصادية التي تواجه مجتمعاتنا.
وأظن انه بإمكان الدول العربية ان تضع قوانين تضبط أساليب الدعاية والتي تكرس للاستهلاك، كما يمكن للدول العربية ان تضع ضوابط قانونية للبنوك حتي تقلص من القروض التي توفرها للمواطنين لشراء الكماليات غير الضرورية.
ولاشك اننا في أشد الحاجة الي إعادة الاعتماد علي انفسنا في انتاج محاصيلنا الزراعية والحيوانية، وإنتاج احتياجاتنا من السلع الضرورية دون التسرع باستيرادها من الخارج مهما كانت المغريات بانخفاض أسعارها عالميا قياسا علي الأسعار المحلية.
فلنرفع جميعا شعار الصناعة والإنتاج الوطني كرفعنا لعلم بلادنا شرفنا وعزنا وهنا سيجد شبابنا الاف الفرص من العمل ونقضي علي البطالة ونستعيد قوتنا وعافيتنا الاقتصادية والأمنية لان من لا يملك قوته لا يملك قراره ولا قوته.