نزار بولحية
في ما تسابق طواقمهم الدبلوماسية الزمن، تحضيرا للقاء القمة الذي سيجمع زعيمهم بالرئيس الأمريكي، لا يلوح في الاثناء أن قراصنتهم الإلكترونيين الذين دوخوا العالم الافتراضي قد بدأوا في التحضير لمرحلة المعاش المبكر.
وربما تكون مهارة الكوريين الشماليين في المراوغة بذلك الشكل المكشوف الذي يمدون فيه يدا للصلح مع الامريكيين، ثم يبعثون باليد الأخرى فيروسات إلكترونية لسبع عشرة دولة حليفة لها حول العالم، من ضمنها تونس، هي واحدة من مفارقاتهم.
غير أن الخلل في لعبة المفاوضات التي يمارسونها الآن مع أكثر من طرف إقليمي ودولي هو في ذلك التناقض بين منطق إرخاء الحبل لأمريكا، ودق طبول الحرب الإلكترونية على حلفائها، حتى في أماكن قصية لا صلة لها مطلقا، لا بتصفية حسابات شبه القارة الكورية القديمة، ولا بالحروب الاقتصادية والإلكترونية التي تشتعل في القارات الخمس. لكن قبل أن يكون هناك اصلا في القصة لغز أو سر، من كان يتصور أنه سيكون من الممكن والمعقول أن توجد أعمال عدائية من ذلك القبيل بين بلدين يبعدان عن بعضهما بعضا بعد السماء عن الارض، ويختلفان تقريبا كليا وجذريا في كل شيء، ولا يوجد بينهما أي نوع من العلاقات أو الروابط المعروفة، أو أي خلاف على مصالح أو ثروات؟ لا شك أنه لم يعد هناك من مستحيل في عالم مثل عالمنا المتقلب، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار الخيالي والسريالي فيه قابلا للتحقيق، وبات واردا فيه أن تثبت مثل تلك الحالة، على الرغم من كم الاختلافات الشديدة بين البلدين.
فقبل أن يجتمع الزعيم الكوري الشمالي «العزيز» مثلما يطلق على نفسه، في الثاني عشر من الشهر الجاري، مع الرئيس الامريكي في سنغافورة في قمة تاريخية قد تدشن عصرا جديدا في شبه الجزيرة الكورية وجوارها، وتفك عن ذلك البلد المجهول والغامض، قيود عزلة طويلة دامت لاكثر من نصف قرن، خرج الامريكان بتحذير مفاجئ من هجوم إلكتروني كوري شمالي كاسح، قد يصل مداه إلى تونس. ونشرت السفارة الامريكية في العاصمة التونسية على حسابها على فيسبوك، دعوة للتونسيين للحذر مما سمتها بـ»البرمجيات الخبيثة»، التي قالت إن كوريا الشمالية تستخدمها، مضيفة أن الامر يتعلق بنوعين من الفيروسات، التي رصدتهما وزارة الأمن الداخلي الأمريكي ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وأن «تونس توجد ضمن سبعة عشر بلدا تم رصد عناوين آي بي مصابة داخلها».
والغريب في الأمر أن وكالة السلامة المعلوماتية التونسية، أصدرت في وقت سابق لذلك البيان تحذيرا من «برمجية خبيثة تهدف للتحايل من خلال قرصنة وتشفير المعطيات الموجودة بالقرص الصلب، ثم طلب فدية من الضحية لاسترجاعها». وأشارت إلى أن ذلك الفيروس «تمكن من إصابة بنوك ومؤسسات عمومية وشركات نقل عالمية ومؤسسات إعلامية، من دون تسجيل أي حالة قرصنة من ذلك القبيل في تونس». وهو ما يطرح نقاط استفهام عديدة حول مبررات الإعلان الامريكي والغاية من ورائه. فبغض النظر عن صحة المعلومات التي نقلها الامريكيون حول وجود تلك البرمجية الخبيثة من عدمه، فإن نقطة الاستفهام الاكبر تبقى، السبب الذي دفعهم إلى عدم الاكتفاء بنقلها للجهات الرسمية المعنية، والمبادرة بدلا من ذلك للإعلان عنها على صفحة السفارة على موقع فيسبوك، الذي يتابعه ملايين التونسيين.
ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد استعراض للقوة، أو للقدرة على التنبه لأي هجمات قد تصيب الدول التي يرونها حليفة لهم، فالرسائل التي أرادوا إيصالها لهم من وراء ذلك في هذا الوقت بالذات، قد تكون أكبر من ذلك وإخبارهم لتنبيههم إلى الخطر المقبل من كوريا الشمالية، من دون تحذيرهم في المقابل من أي خطر آخر قد يتعرضون له من دول غيرها، ليس ايضا بالأمر العابر أو غير المقصود.
إنهم يدركون جيدا أن معرفة معظم التونسيين بكوريا الشمالية بسيطة ومحدودة، وقد لا تتعدى بعض المقاطع المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تظهر بعض مظاهر قسوة الزعيم الكوري، مثل إقدامه على إعدام مهندس لأحد المطارات لمجرد أن تصميمه لم يعجبه، أو إعدامه لعمه بطريقة فظيعة. أما أزيد من ذلك فهم يجهلون تماما ما يدور في ذلك البلد المعزول، لكن مواقف كيم المتحدية لأمريكا وإصراره على الاحتفاظ بترسانته النووية، رغم العقوبات والضغوطات، قد تكون هي التي جلبت أنظارهم وجعلتهم يعجبون بهذا القزم الذي استطاع أن يمرغ أنف القوة العظمى في التراب. وربما لاقت التصريحات المنسوبة له حول نقل السفارة الأمريكية للقدس أيضا مزيدا من الاعجاب لا في تونس وحدها، بل في كل الدول العربية التي لم يجرؤ أحد من قادتها على أن يقول مثله إنه «لا توجد هناك دولة اسمها اسرائيل حتى تصبح القدس عاصمة لها». لكن كل ذلك قد لا يكون مبررا لهز صورة «الزعيم المحبوب» وتلطيخها باختلاق قصة الفيروسات الإلكترونية، التي يبعثها حتى لبلد لا ناقة له ولا جمل في صراعاته ومشاكله مع أمريكا ومع غيرها. فالامريكيون يعرفون قبل غيرهم أن ما يشغل التونسيين هو أبعد ما يكون عن ذلك، وأن لديهم من المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية المحلية ما يجعلهم في غنى عن التركيز على ما يجري بعيدا عن حدودهم بآلاف الكيلومترات. فهل كل ما كانوا بحاجة إليه الآن هو أن يتلقوا مساعدة ثمينة تتمثل في تحذيرهم من برمجة خبيثة مقبلة من كوريا الشمالية؟ وهل هذا هو الدعم الامريكي المنتظر للديمقراطية التونسية؟ لكن أن ثبتت فعلا رواية «الفيروسات» فما مصلحة الكوريين في إرسالها لبلد مثل تونس؟
لقد كشفت وكالة رويترز للانباء في مايو من العام الماضي، أن المخابرات الكورية الشمالية تدير مجموعة خاصة بالهجمات الالكترونية تسمى «الوحدة 180» تستخدم بشكل خاص لتزويد النظام بالعملة الصعبة، وبحسب الوكالة فإن لدى خبراء في الأمن المعلوماتي، أدلة على أن بيونغ يانغ كانت وراء الهجوم الإلكتروني الواسع الدي استهدف العام الماضي نحو ثلاثمئة الف كمبيوتر في مئة وخمسين دولة. ولم يعد سرا أن الهجمات الالكترونية باتت السلاح المفضل للكوريين الشماليين. غير انه سيكون من السذاجة أن نتصور أن بلدا مثل تونس سيكون هدفا من أهدافهم، اللهم إلا في حالة ما إذا عرض عليهم أن يقوموا بذلك لفائدة طرف ثالث. وهو ما لا يكشفه التحذير الامريكي بالطبع. لكن ألن يكون ممكنا للدول المعروفة بعدائها للتجربة التونسية أن تحجز دفعة من الفيروسات أو البرمجيات الكورية الخبيثة على الحساب، وتوجهها في وقت ما لبعض المؤسسات الحساسة في تونس؟ لقد اخترق حساب الإذاعة التونسية على فيسبوك أواخر العام الماضي، لتنشر فيه دعوات تحريضية للجيش للانقلاب. ولم يعلن إلى الان عن الجهة المتورطة في ذلك. فهل سيكون التحذير الجديد من فيروسات كوريا الشمالية مقدمة لهجوم إلكتروني أوسع تطلقه تلك الجهة نفسها؟ أم أنه لن يكون بالاخير سوى فرقعة كاذبة وزوبعة في فنجان لا أكثر ولا أقل؟ ربما عثرنا على الجواب في عواصم اخرى اقرب بكثير من بيونغ يانغ.
كاتب وصحافي من تونس