جلبير الأشقر
لقد شهدت منطقتنا الكثير من المآسي منذ أن رأينا المدّ الثوري العارم الذي انطلق من وسط تونس في أواخر عام 2010 وبلغ ذروته في «الربيع العربي» لعام 2011، منذ أن رأينا ذاك المدّ ينقلب إلى جَزر رجعي بدءًا من عام 2013. وعلى الرغم من كافة المآسي التي توالت علينا، بقينا على يقين من أن ما بدأ قبل أكثر من سبع سنوات لم ينتهِ، ولن ينتهي في مستقبل منظور، بل ستبقى منطقتنا على اتّقاد في سيرورة ثورية طويلة الأمد. وسوف تلي الربيع الأول هبّات جماهيرية أخرى قد تتصاعد إلى ربيع إقليمي جديد يبدو الأول مقارنة به وكأنه بروفة مهّدت لتجربة ثانية أرقى منها.
أما سبب يقيننا هذا فهو إدراكنا أن «الربيع العربي» لم يكن وليد طفرة شبابية أو ثقافية كما أراد تصويره من أسقطوا عليه رغباتهم بأن يكون سحابة صيف لا غير، بل كان أول انفجار معمّم لأزمة النظام العربي برمّته. وهي أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة ناجمة عن الطبيعة الطبقية والسياسية للدول العربية، وعن السياسات النيوليبرالية التي جرى تطبيقها في هذا الإطار بما أدّى إلى تفاقم بطء النمو الاقتصادي والأزمة المعيشية والبطالة، لاسيما بطالة الشباب، وهي جميعاً سمات محكومة بمزيد من التفاقم ما دامت طبيعة الدول وسياساتها الاقتصادية على حالها.
لا بل رأينا الأنظمة العربية جميعاً، وقد انضافت إليها إيران، تسعى وراء محاربة الداء بالتي هي الداء وتذعن لصندوق النقد الدولي، الذي عزا الأزمة إلى عدم تطبيق وصفاته بالحدّة والشمولية المطلوبتين. وهي وصفات مبنية على التصوّر النيوليبرالي الذي يرى أن سيادة قانون الغاب في الاقتصاد («الحرية الاقتصادية» المزعومة) كفيلة بتحقيق التنمية من خلال المزيد من إثراء الأثرياء وإفقار الفقراء، بحيث ينعكس كل ذلك في الأمد الطويل رخاءً على الجميع، وهو كوعد الناس بجنّة الخلد بعد وفاتهم تبريراً لفرض الجحيم عليهم وهم على قيد الحياة.
والحال أن منطقتنا هي التي أدّت وتؤدّي فيها تلك السياسات إلى أوخم عواقبها، وذلك بسبب طبيعة الدول والأنظمة لدينا، بحيث بلغت اللامساواة قمّتها في المنطقة العربية قياساً بكافة مناطق العالم الأخرى بينما ازدادت نسبة شعوبنا الرازحة تحت خط الفقر بعكس انخفاضها في بلدان أخرى كالصين أو الهند، وحلّقت بطالة الشباب لدينا في أعلى نسبها العالمية طيلة عقود وهي لا تني تتفاقم. ويكمن سرّ انفجار أوضاعنا تحديداً في هذه الأحوال الاجتماعية الاقتصادية المزرية. أما استمرار صندوق النقد الدولي بالإيعاز بمزيد من الحزم في تطبيق وصفاته واستمرار الأنظمة القائمة بالإذعان لإرشاداته، فقد أصبحا في هذه الظروف بمثابة استفزاز مكشوف للجماهير.
وقد بدأ عام 2018 بامتداد للغليان الاجتماعي إلى إيران والسودان وتونس التحاقاً بالمغرب والحراك المزمن فيها، وكلّها هبّات ناجمة عن زيادات في الأسعار كانت الغاية منها جعل الفقراء يدفعون القسط الأعظم من فاتورة القضاء على عجز الموازنات الذي ترى فيه النيوليبرالية ركناً أساسياً من أركانها. أما السياسات التنموية فترى في استثمار المال العام في المشاريع العمرانية وسيلة أساسية لتطوير الاقتصاد، تماماً مثلما تقوم المنشآت الاقتصادية على الاقتراض واستثماره حتى يتمّ سدّه وتحقيق الأرباح. أما فشل أنظمتنا فيعود إلى سوء استخدامها للإنفاق العام في إثراء أزلامها بدل السعي وراء التنمية، وليس سببه «تكرّمها» الزائد على الفقراء مثلما تدّعي.
هذا وقد ظنّت الحكومة الأردنية أن تمريرها لإجراءات نيوليبرالية فرضتها على كاهل الشعب في بداية هذا العام بدون أن تثير احتجاجاً جماهيرياً بحجم الذي شهدته البلدان الأخرى التي سبق ذكرها، ظنّت بل توهّمت أن ذلك التمرير هو بمقدورها لاختلاف الأوضاع السياسية لديها، تماماً كما يظنّ كل حكم يسقط رغباته على الواقع. وقد صبّت حكومة الأردن مزيداً من الزيت على النار بفرض ضرائب جديدة على أصحاب المداخيل المتواضعة، فحصلت على ربيع أردني انضاف إلى محطات الربيع العربي البارزة بتمكّنه من اسقاط حكومة للمرّة الأولى بعد تجارب متكرّرة من إسقاط الحكومات حققتها محطات أخرى في سنتي 2011 و2012.
وتكون الجماهير الأردنية بذلك قد ربحت معركة، لكنّها لم تفز بالحرب الاجتماعية السياسية. وهذه الأخيرة «حربٌ» طويلة الأمد، يرتهن مصيرها بقدرة الجيل الجديد الذي لعب الدور الأهم في كافة محطات الانتفاضة الشعبية في منطقتنا (بدون أن ننسى انتفاضة غزّة البطلة، وإن اختلفت ظروفها)، قدرة هذا الجيل على أن يفرز قيادة ثابتة ومنظّمة للحراك الشعبي بما يجعل من تحقيق الأماني الشعبية العميقة أفقاً ممكناً في المدى المنظور.
كاتب وأكاديمي من لبنان