د. حسين البناء
مُنذ أن تأسَّس (الأردن) وهو في عين العاصفة، ولم يَمر عليه عقدٌ واحد يخلو من الأزمات بأشكالها السياسية والاقتصادية، ولطالما كانت (حنكة و ذكاء) القيادة السياسية (التي كانت حاضرةً في أدق تفاصيل الحياة اليومية للناس) هي صمام الأمان الذي يمتص الآثار والتبعات وعلى كل المستويات. أما خلال هذه الأزمة الاقتصادية فقد تعطَّلت فجأةً معظم قدرات الدولة على ضبط الأمور، وبات واضحًا بأن الأمور تخرج عن السيطرة !
بدايةً، فقد سقطت جميع وسائل الإعلام الرسمية في فخ (الحذر والتأخر) في حين تدفق سيلٌ من المعلومات بجميع الأشكال (صوت و صورة و نصوص) من جهة الحراك الشعبي وبشكلٍ احترافي ومهني أكثر من الحكومة ذاتها.
لم تُفلح جهود الحكومة برغم ضخامة جهازها البيروقراطي الإعلامي في أن تُقنع أحدًا بالعُدول عن نوايا الإضراب و الاعتصام و التجمهر والهتاف، في حين تدفقت الجماهير على الميادين بعد رسائل سريعة و بسيطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
عقودٌ من انعدام الثقة المتبادل بين الناس و الإدارة العامة جعل الجماهير غير قادرة على التفاعل مع الرسائل الحكومية التي بدت لهم كدعاية يشوبها عيب المصداقية.
وزير المالية الحالي (عُمر مَلحس) صرَّح بأن الدولة غير قادرة على دفع رواتب الموظفين مالم يتم إقرار (قانون الضريبة) والذي بدوره سيَمنح الحكومة (شهادات الاعتماد) من (صندوق النقد الدولي) للاقتراص المنوي حديثًا، وهذا كلامٌ يَحمل معاني كثيرةٍ منها التهديد و الضغط و قِصر النظر وسوء إدارة الأزمة؛ حيث ما إن وصلت هذه الرسالة (السلبية) للناس (مُعزَّزةً بدعاية مضادة للحراك الشعبي) حتى هرعوا للبنوك لسحب مدخراتهم وتحويل أرصدتهم للعملات الأجنبية المستقرة، في مشهد دراماتيكي خطير الأثر على ثقة المتعاملين في السوق، و على قدرة الحكومة لممارسة أدواتها عبر (السياستين النقدية والمالية) وعلى ضبط (سعر الصرف) و (نسبة الفائدة) وربما هو تلميح لاحتمالات (سيناريوهات خطيرة) في السوق المالي. هذا التصريح هو من (الأذى) بدرجةٍ أن يقود المؤشرات نحو الهاوية.
على الرغم بأن غالب الطاقم الاقتصادي الحكومي هُم من (خريجي أعرق جامعات العالم) لكن يبدو أنه قد فاتهم درس (الأثر النفسي لثقة المستهلك) والذي يَقضي بأن السوق والأداء الاقتصادي والتصنيف الائتماني و تصنيف المخاطرة و تصنيف المخاطر السياسية تتأثَّر بحالة (الغموض و عدم اليقين) أكثر بكثيرٍ من حالة (كفاية المعلومات) الأقرب لليقين.
النقابات أعادت الدعوة لإضراب يوم الأربعاء القادم، وحشود الحراكيين تملأ الميادين يوميًا، و خلال الليلتين السابقتين تم غلق الكثير من الطرقات الرئيسية في المملكة لساعات، في مقابل ذلك نَجِد (تعنُّت وإصرار) رسمي لافت و مُستهجن، و ما زالت الأجهزة البيروقراطية للدولة تتعامل مع الأزمة (كروتين طبيعي) ينقصه سِمة (الطاريء) و بات واضحًا بأن أعداد المتظاهرين بازدياد، و سقوف مطالبهم تتعالى، والمشهد مفتوح للتطورات في نهاية الأسبوع.
كان مِن المُمكن أن تتوجه الدولة (لإصدار نقدي) بالدينار الأردني، و تسديد الالتزامات المُلحِّة في (الربع الثالث) من هذا العام، و مِن ثُم إعادة جمع الفوائض بسندات محلية متدنية (سعر الفائدة) لكبح نسب التضخم المتنامية، وهنا على الأقل نكون قد حصرنا الأزمة بالتضخم بدون الركود. أما الآلية الأجدى فهي في نوايا جادة بخفض الإنفاق العام و كبح التهريب و التهرب الضريبي و الفساد و سوء الإدارة لمرافق الدولة.
واهمٌ من اعتقد بأن التجارب جميعها مُستنسخ، وأن الحلول كذلك، وواهمٌ من يعتقد بأن هذه التجربة سوف تكون مُجرد غيمة صيف.
أكاديمي وكاتب