أمير تاج السر
في الأسبوع الماضي، أعلنت نتيجة جائزة مان بوكر العالمية، وهي جائزة جيدة أطلقتها مؤسسة مان بوكر البريطانية، احتفاء بالأدب المترجم من لغات أخرى إلى الإنكليزية، بحيث يمكن أن يتنافس عليها كتاب العالم كلهم، ما دامت ثمة نصوص لهم ترجمت للإنكليزية.
وهي بالقطع جائزة لها كيانها واعتبارها الخاصين برغم أنها أقل أهمية من جائزة مان بوكر الأصلية، التي يتنافس عليها كتاب اللغة الإنكليزية في أي مكان سنويا، ويمكن اعتبارها أهم جائزة أدبية بعد نوبل الآداب، وكل من يحصل عليها، يتوج نصه بالبريق، ويسافر إلى كل اللغات، ويدخل في الأمزجة والتذوقات كلها، وكثيرا ما نسمع بفوز كتاب هنود أو كنديين أو أمريكان بالجائزة، ومنذ عامين فاز بها كاتب من هاييتي هو مارلون جيمس، بنص عنيف وثري في الوقت نفسه، عن المغني العظيم الراحل بوب مارلي.
الجائزة العالمية الخاصة بالأدب المترجم، فازت بها البولندية المشهورة: أولغا توكارتشوك، برواية اسمها «Flights» وصفت بأنها ضاربة في عمق التاريخ وممتدة حتى وقتنا الحاضر، وفيها رصد لمسيرة الإنسان والحياة وتقلباتها.
وكانت في القائمة القصيرة التي أعلنت قبل ذلك أعمال أخرى لكتاب من أماكن مختلفة، وكان المفرح في الأمر أن بينهم العراقي أحمد سعداوي، بنصه «فرانكشتاين في بغداد» الصادر عن دار الجمل، والذي حصل به على البوكر العربية منذ سنوات، وكان في مستوى الفوز بالفعل. عالم فنتازي، وبطل أسطوري هو الشسمة، أو الذي بلا اسم، تمت صياغته من الأشلاء، وحقيقة استطاع سعداوي رواية قصة حزينة ومؤسفة بأدوات جيدة، استطاع كتابة فنتازيا عربية بأدوات عربية خالصة، بعنف عربي ودم عربي ومداد عربي. ونعرف أن أدب الخيال هذا غير منتشر عندنا، وكل من يكتب يتجه بلا أي تفكير إلى كتابة خبراته الحياتية، في تلك الروايات المختلطة بالسيرة في معظم الأحوال، وكان مهما فعلا في «فرانكشتاين في بغداد» أنها لم تنل استحسانا نقديا فقط، ولكن القارئ العادي أيضا تذوقها، بوصفها أدبا رفيعا سهلا، ومتوافقا مع مرحلة العنف التي نعيشها، ولا بد تنتج أدبا يلقي عليها الضوء أكثر.
وأعتقد جازما أن النسخة الإنكليزية التي وجدت كل هذا الرواج، ونشرت في بريطانيا وأمريكا، كانت ترجمة موفقة، استطاعت نقل النص بمعظم فنياته إلى الإنكليزية، وقد قرأت التعليقات على النص في موقع أمازون، ولم أجد قارئا إنكليزيا يشكو من رداءة الترجمة، أو تشتتها كما يحدث مع أعمال عربية كثيرة، تمت ترجمتها للإنكليزية أو أي لغة أخرى، ولم تكن في المستوى المطلوب.
كانت «فرانكشتاين» منافسة قوية لرواية البولندية الفائزة، وكان من الممكن أن تفوز، وما دامت وصلت للقائمة القصيرة فاحتمالات فوزها موجودة مثل أي رواية أخرى في القائمة، ولو فازت، لكان ذلك انتصارا للأدب العربي فعلا، وبداية اكتسابه لملامح يستطيع أن يزهو بها وسط الآداب الأجنبية. لكننا نعرف أمزجة الجوائز جيدا، وأنها في الغالب ضد التوقعات، ولا أعني الجوائز الأدبية فقط، ولكن حتى الجوائز الفنية والسينمائية. وكثيرا ما نشاهد فيلما مرشحا لجائزة أوسكار بقوة، ويعتبره النقاد فائزا، يزحزح عند إعلان النتيجة، ويوضع فيلم آخر، فيه مجهود قد يكون، ولكنه ليس الذي يفوز بجائزة السينما الكبيرة هذه.
بكل الأحوال أعتبر نص «فرانكشتاين» نصا مضيئا، فقد نافس بقوة، ولمع ومشى بخيلاء وسط نصوص عالمية، وأثر تأثيرا إيجابيا بصورة مدهشة، وأظنه وصل إلى لغات عدة غير الإنكليزية، وينتج الآن سينمائيا وتلفزيونيا، وسيأتي وقت يذكر بجانب نصوص مضيئة أخرى، دائما ما أتذكرها حين يبهرني حدث أدبي، أو يلمع في الوجود عمل رائع، يستولي على تذوق الناس لفترة.
من النصوص المضيئة رواية «أشياء تتداعى» للنيجيري تشينوا أتشيبي، رواية كتبت في زمن بعيد، من القرن الماضي، وظلت تتمدد في كل الأوقات بعد ذلك، منتقلة بعنفوانها الأول من جيل إلى جيل. لا أحد ينسى أوكامبو البطل المهووس بتراثه، وتقاليده وعاداته، والأرواح الخيرة التي يتم استدعاؤها من العدم لتبارك الزراعة والرعي والناس، أو الشريرة التي تستدعى لتقوم المعوج. لا أحد ينسى دخول المستعمر في هيئة مبشرين بالدين المسيحي، ألغوا التقاليد، ودنسوا الأرواح الخيرة، في نظر سكان البلدة، وزرعوا دينا جديدا فيه ثواب وعقاب لم يكن يعرفه الناس، وكيف أن بطل القصة ضاع من جراء رفضه لما اعتبره هذيانا.
إنها قصة سحرية عن التصاق الإنسان بالطبيعة، والتصاق الطبيعة بالإنسان، وفيها بجانب ذلك حس ساخر، يحيل الهم داخلها إلى سخرية سوداء، يمكن أن تحتلب ابتسامة. وقد لفت انتباهي وجود فقرات تشبه الواقعية السحرية التي نسبت بعد ذلك لكتاب أمريكا اللاتينية، وأعلم أن رواية «أشياء تتداعى» كتبت قبل أن يظهر أدب أمريكا اللاتينية بصورته التي نعرفها، السحرية في ظهور أموات من الحكماء الذين رحلوا في أزمنة غابرة، للناس في لحظات الاحتياج القصوى، يظهرون ليضعوا الحلول المناسبة ويعودوا بعد ذلك إلى ثباتهم، لكن الموضوع في النهاية، كان شيئا آخر غير إبراز تلك المناحي السحرية.
نص مضيء آخر، وصل إلى أقصى درجات القراءة، حين وزعت منه عشرات الملايين من النسخ، ووصل أيضا إلى السينما، إنه رواية «عداء الطائرة الورقية»، للطبيب الأفغاني خالد حسيني. رواية كبيرة تحمل همها وعالمها بكل ما فيه من انضباط وفوضى، عالم أفغانستان في عهد حكم الطالبان، حين كانت حتى الضحكة ممنوعة، والابتسامة ممنوعة، وقراءة الكتب أو كتابتها ممنوعة بسخاء، والمجتمع كله سجين أفكار مخرفة بالية، أعادت الأفغان قرونا إلى الوراء، وأعادت المرأة بالتحديد، إلى زمن الجاهلية، قبل أن يحررها الإسلام الحقيقي، ويكرمها. من إيحاء ذلك الجو البائس، نسج حسيني قصته الأسطورية، البحث عن ولد صغير، ضاع في لجة طالبان، ومغامرة مرعبة، وخطرة.
بالطبع لن أتعرض لكل تلك النصوص التي سميتها مضيئة، وهي كثيرة، وحجم إضاءتها متباين، فقط ذكرت ما ورد إلى ذهني من قراءاتي المتعددة، وهناك أعمال انتشرت بكل مواصفات الانتشار، لم أحبها شخصيا ولم أرها مضيئة أو مؤثرة، لكن أغرب ما في الأمر أنها أضاءت وأثرت.
أعود لإنجاز سعداوي، وهو إنجاز ثابت الآن وليس نظريا، بمعنى أن ما زرع وحصد، عرفه العالم كله، ومعروف أن نصوصا كثيرة حصلت على بوكر عربية قبل «فرانكشتاين» وبعدها، فقط يأتي تأثيرها كأكثر رواية عربية تذوقها العالم مؤخرا.
كاتب سوداني