د. هشام أحمد فرارجة
تتسارع الاحداث على المسرح الدولي وكأنها مسرحية درامية تتكشف فصولها، الواحد تلو الآخر، باعثة الاثارة والدهشة في العالم من حولها، لما فيها من تفاصيل مركبة ومفاجآت متتابعة.
لم يتم اختيار مثل هذه الاستعارات في المقدمة جزافا أو صدفة. بل على العكس، قد يحار أبرع المراقبين وأدق المحللين في الكيفية التي يمكن أن يتعاطوا فيها مع نظام دولي يتربع على أحد أقطابه من له باع طولى في معترك مسلسلات الشهرة والنجومية، الرئيس الامريكي دونالد ترامب. فاذا ما كانت اخفاقات ترامب السياسية والشخصية لا تعد ولا تحصى، اّلا أنه، وبجدارة، يتفوق عادة في قدرته على لفت الانظار وأسر انتباه من حوله، بغض النظر عن الوسائل التي يلجأ اليها لتحقيق ذلك. فشخصية نرجسية جوهرها ذاتها، كتلك التي يجسدها ترامب، تعنى أكثر ما تعنى بالظهور والاستعراض وخطف الاضواء.
هكذا تبدو الكيفية التي قام بها ترامب بصياغة سياسته الخارجية تجاه أيران، من ناحية، وتجاه كورية الشمالية، من ناحية اخرى. ففحوى سياسة ترامب تجاه أيران يتمثل في تمايزه بتنفيذ وعوده الانتخابية، وباتخاذه قرار انسحاب الولايات المتحدة الامريكية من الاتفاق النووي الذي تم التوصل اليه عام 1915، رغم تحذيرات الكثيرين من المسؤولين والمراقبين الامريكيين، وكذلك العديد من الحلفاء الاوروبيين الذين تقاطروا على واشنطن لاقناعه بالعدول عن تهديداته. غاية الانسحاب من هذا الاتفاق الدولي مع أيران هي تبيان عظمة القائد الذي يختلف عن كل سابقيه من السياسيين والمرشحين الذين يطلقون الوعود من أجل كسب أصوات الناخبين فقط، دون أن يلتزموا بالضرورة بتنفيذ ما تعهدوا به. ولكي ينزلق في الوحل أكثر، أطلق ترامب العنان لوزير خارجيته الجديد، ذي الخلفية الاستخبارية كمدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية، مايك بومبيو، لاعلان عقوبات اقتصادية تاريخية غير مسبوقة على أيران ولطرح الاثني عشر شرطا اسرائيليا تعجيزيا، والمطلوب من أيران الامتثال لها.
فاذا ما كان يمكن اعتبار الانسحاب من الاتفاق النووي تتويجا لجنون العظمة عند ترامب، كون ذلك الاتفاق دوليا وبعضوية بعض حلفاء الولايات المتحدة الاوروبيين، فان شن الحرب الاقتصادية ضد أيران، تمهيدا لما قد يتبعها عادة من حرب عسكرية، يعتبر مغالاة حقيقية في الجنون وتجسيدا لعظمته. فالاعتقاد أن العقوبات الاقتصادية سوف تخلق بلبلة داخلية في أيران، ومن ثم سوف تزعزع أركان نظام الحكم، مما سيثني أيران عن الانخراط في المسائل الاقليمية، سواء في العراق، سوريا، لبنان، أو في اليمن، لهو من دروب الاوهام. هذه الفرضية تبدو وكأنها سحبت من دليل سياسي معد مسبقا للتعامل مع الدول التي توجد بينها وبين الولايات المتحدة خصومة ما. ولكن سرعان ما ستبان مواطن فشل هذه الفرضية في الحالة الأيرانية، تماما كما فشلت في سوريا والعراق، ومن قبلهما في كوبا وفنزويلا وسواها.
ستكون نتائج هذه الحرب الاقتصادية على أيران مغايرة تماما لما يتوهمه ترامب وادارته، حتى وان عظمت آلته العسكرية وطموحه في أن يظهر كأعظم قائد عرفه التاريخ الامريكي. فعلى أقل تقدير، سوف تدفع هذه السياسة المجتمع الأيراني، بشقيه السياسي والمدني، نحو المزيد من الأصولية واتخاذ المواقف الأكثر تطرفا وحدة نحو الولايات المتحدة. وليس من قبيل المبالغة أن يقال أن هذه السياسة الامريكية سوف تقود في الغالب الى تسريع النظام السياسي في أيران لحيازة السلاح النووي، كون أحد أهم أقطاب الاتفاق الخاص بهذا الشأن قد انسحب منه احاديا، وكأداة للردع في حال تعرضت أيران لهجوم عسكري. ومن ناحية اخرى، فانه يتوقع أن تقوم أيران بتعزيز نفوذها وامكاناتها الأقليمية أكثر من أي وقت مضى، أيضا تحسبا لما قد تتعرض له من هجمات. وبالاضافة الى ذلك، فانه يتوقع أن تشهد علاقات الولايات المتحدة المزيد من التوتر مع بعض حلفائها الاوروبيين التقليديين، خاصة اذا ما قامت ادارة ترامب بمقاطعة الشركات الاوروبية التي تستمر في علاقاتها التجارية والمالية مع أيران.
اذن، ان الرغبة الجامحة في ابراز عظمة القائد الفذ، كما يحلو لترامب أن يتخيل نفسه، ستؤدي الى زعزعة استقرار الأقليم بكامله، ولربما العالم أجمع، حسبما تتدحرج الامور في حال حدوث مواجهة عسكرية في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وأشدها خطورة. واذا ما صحّ أحد التقارير الذي يورد أن الولايات المتحدة قد قامت مؤخرا بنقل كميات هائلة من القذائف الى احدى البلدان المجاورة لأيران، والتي من بينها عشرات القنابل العملاقة على شاكلة تلك التي جربتها الآلة العسكرية الامريكية في أفغانستان بعيد تسلم ترامب ادارة البيت الابيض، فان هذا يعني أن المنطقة أمام مجموعة من التطورات المصيرية التي قد يتسبب بها هذا الاندفاع المحموم للسيطرة على الغير ومقدراته. فما لم يعلنه، ولكن لا شك يفكر به ترامب هو حجم ما لدى أيران من مقدرات وثروات ومواردّ لا سيما النفطية منها.
وبالنسبة لكورية الشمالية، فان الأمر ليس بأفضل حال. فانطلاقا من التمحور حول الذات، اعتقد ترامب، خاطئا، أن تهديداته هي التي دفعت برئيس كورية الشمالية، كيم يونج أون ورئيس كورية الجنوبية، مون جاي-ين للقاء، ومن ثم الى اجبار الرئيس كيم للدخول في مناورات تفاوضية مع ادارته. ولربما أحس ترامب بأنه يقترب من ذروة نشوته وأعلى درجات عظمته باعتقاده أن قمة تاريخية، غير مسبوقة، سوف تعقد بينه وبين رئيس كورية الشمالية، بحيث تتنازل فيها كورية عن ترسانتها العسكرية وخاصة برنامجها النووي، اسوة بالسيناريو الليبي. لم يدرك ترامب أن قيادتي كورية الشمالية والجنوبية في الغالب التقتا من أجل تنسيق المواقف بينهما، ادراكا من قبل الطرفين لما يشكله ترامب على بلديهما من مخاطر في حال اندلاع مواجهة عسكرية في شبه الجزيرة الكورية. ولم يدرك ترامب، على ما يبدو، بأن تهديداته ووعيده لكورية الشمالية، وأن اهاناته لرئيسها عدة مرات قد دفعت بالرئيس كيم لكي يوهم ترامب أن الاجواء مناسبة لصعوده الى أعلى الشجرة، حتى لينزله عنها “مخوزقا” سياسيا، داخل الولايات المتحدة وفي العالم أجمع.
لا أحد يستطيع أن يستقرء مستقبل العلاقات الامريكية مع كورية الشمالية بدقة. ولا أحد يستطيع أن يجزم ان ما كانت القمة الموهومة لدى ترامب سوف يتم عقدها مع الرئيس الكوري الشمالي. ولكن، اذا ما كانت المؤشرات كافية للحكم، فان قمة من هذا القبيل تبدو سرابا أكثر منها حقيقة. وحتى في أحسن الاحوال، لو عقدت، لن تكون ذلك المسرح الذي طالما حلم به وانتظره ترامب لكي يستعرض انجازاته الفذة ويتباهى بها على الملأ. لن تكون كورية الشمالية ليبيا ثانية. وفيض النشوة الذي أحس به ترامب في أحد مسلسلات هذه العلاقة سرعان ما قد يتحول من جديد الى ذلك الاندفاع المعهود من الاهانات والتهديدات، ولربما المواجهات.
ليس مقبولا لدى ترامب بأن يظهر كالخاسر في كلتا هاتين الحالتين، أيران وكورية الشمالية. وعادة، فان محاولة البرهنة على النجاح وعدم الفشل قد تأخذ شكل صب الغضب والحمم على الطرف الذي يعتقد أنه تسبب بالفشل لدى القائد الفذ. بتعبير آخر، ان على العالم أن يتأهب للتعامل مع مجموعة من الاحداث الجسام التي ستفرضها تخبطات ترامب واندفاعاته الشخصية وعدم خبرته، خاصة اذا ما أخذنا بعين الاعتبار بحث ترامب المستميت عن طوق نجاة بسبب كون الدائرة القانونية من حوله، والتي قد تهدد مستقبله السياسي، ولربما تطيح به من الرئاسة.
الخطر الحقيقي يكمن في أن يفكر ترامب في يغرق العالم معه اذا ما تمت الاطاحة به. أيران وكورية الشمالية قد تكونان الذريعتين اللتين يمكن أن يحاول ترامب التسلل من خلالهما، اما لانقاذ نفسه داخليا عن طريق اشغال المؤسسة الامريكية والمجتمع الامريكي بحروب طاحنة لا تتيح المجال للتفرغ للهموم المحلية، أو لجر العالم برمته الى ما لا تحمد عقباه من تطورات وانهيارات. وفي كلتا الحالتين، يكون هذا الخليط بين جنون العظمة وعظمة الجنون هو الذي سيملي سياسات عليا بأبعاد فارقة، تماما كما أن معظم القرارات والسياسات التي يتخذها ترامب حتى الآن، داخليا ودوليا، تعكس بالدرجة الرئيسية تخبطات شخصية، أكثر من كونها تعبر عن حسابات استراتيجية موزونة. فهل على العالم أن ينتظر حتى يستفيق على فعلة من لا يعير لنتائج أفعاله أهمية، من هو محاط بمجموعة من صقور الحرب في ادارته؟! فحال العالم اليوم ينطبق عليه المثل العربي الذي يقولْ “مجنون يرمي حجرا في بئر، ومائة عاقل لا يستطيعون اخراجه”.
استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية