اليوم انفو : لُبنان يعيش اليوم مَهرَجانًا انتخابيًّا غير مَسبوقٍ، حيث تَدفَّق مِئات الآلاف من اللُّبنانيين إلى صناديق الاقتراع لاختيار مُمَثِّليهم في البَرلمان لأوّل مَرَّة مُنذ تِسعَة أعوام، بسبب الخِلاف حول قانون الانتخاب المُعدَّل وبُنودِه، واعتماد نِظام التَّصويت النِّسبي حيثُ جَرى تقسيم البِلاد إلى 15 دائِرةٍ انتخابيّةٍ.
المُفاجَآت ربّما تكون قليلة بَعد فرز الأصوات الذي يَحتاج إلى بِضعَة أيّام، ولكن إجراء هذهِ الانتخابات في حَدِّ ذاتِه وفي مِنطقةٍ مُضَّطرِّبةٍ مِثل الشَّرق الأوسَط، وفي بَلدٍ يَقِف على حافَّةِ حَربٍ مُشتَعلة مُنذ سبع سنوات (سورية)، ووجود أكثر من مليون لاجِىء على أرضِه، واحتمالات انفجارِ حَربٍ إقليميّةٍ أوسَع ربّما تتطوَّر إلى حَربٍ عالميّةٍ، فإنّ هذهِ الانتخابات تُؤكِّد “المُعجِزة” اللُّبنانيّة التي ليس لها مَثيلٌ ليس في المِنطَقة، وإنّما في العالمِ بأسْرِه.
ذَهاب اللُّبنانيين إلى صناديق الاقتراع يُؤَكِّد أنّ هذا البَلد استعاد عافيّته، أو مُعظَمِها، ويعود تَدريجيًّا إلى الحياةِ الطَّبيعيّة أو إلى الحَد الأدنى مِنها، وهذهِ العَودة حاجة اقتصاديّة مُلِحَّة، خاصَّةً أنّ الدَّين الوَطنيّ العام اقترب من مِئة مليار دولار في بَلَدٍ بِلا مَوارد، والسِّياحة مَورده الأبرَز أُصيبَت في مَقتل لأسبابٍ عَديدةٍ ليس هُنا مَجالٌ تِكرار سَردِها.
الدُّوَل المانِحة في اجتماع باريس الأخير تَعهَّدت بِتَقديم 11 مِليار دولار على شَكلِ قُروضٍ مُيَسَّرة في مُحاولةٍ لضَخ دِماءِ حياةٍ جديدةٍ في شَرايين اقتصادٍ مُتَصَلِّبة، ومَشروطة بإجراء إصلاحاتٍ اقتصاديّة جَذريّة، وهِي بمَثابة “كأس السُّم” الذي لا بُد من تَجرُّعِه لإبقاء أنف الاقتصاد اللُّبناني فَوق الماء، وتَوفير الحَد الأدنى مِن الأوكسجين لِبَقائِه حيًّا.
أمران مُحتَملان مُمكن أن تتمخَّض عَنهُما هذهِ الانتخابات في المُحَصِّلة النِّهائيّة:
ـ الأوّل: عَودة السيّد سعد الحريري على رأس حكومة ائتلافيّة تَضُم أحزابًا عَديدةً على غِرار الحُكومة الحاليّة، ولكن بِمقاعِد أقل لحِزبِه (تيَّار المُستقبل) بعد تَراجُع الدَّعم السُّعودي له سِياسيًّا وماليًّا، وحُدوث انشقاقات في قِمَّته، أي “تيَّار المُستقبل” وظُهور قِياداتٍ مُنافِسة.
ـ الثَّاني: تكريس “حزب الله” مكانته كقُوَّةٍ رئيسيّةٍ سياسيّةٍ وعَسكريّة في لُبنان رغم التَّحالفات الخارجيّة التي وقفت في خَندق الأحزاب والتَّكتُّلات المُضادَّة له بِدعمٍ إقليميٍّ وخارِجيٍّ، فتَدخُّل الحِزب عَسكريًّا في سورية أثَّر سَلبِيًّا على شَعبيّته في ظِل حالة الاستقطاب الطَّائِفي المُتصاعِدة في المِنطَقة، ولكنّه يَظل تَأثيرًا مَحدودًا، والحزب بِحاجَةٍ إلى هذهِ العَودة القَويّة والغِطاء السِّياسي الأوسَع في ظِل التَّوقُّعات باحتمالاتِ حَربٍ إيرانيّة إسرائيليّة وَشيكة قد يَكون لُبنان وسورية مَيدانُها.
مع غُروب الشَّمس ينتهي هذا المَهرجان الانتخابي الأكثر عَراقةً، والأكثر شَفافيّة في مِنطقة الشَّرق الأوسَط، ولكن الجَدل اللُّبناني الصَّاخِب سيستمر حَتمًا، وسَيأخذ أشكالاً عديدة، حول المَقاعِد الوِزاريّة والشَّخصيّات الجَديدة، ممّا يُعطِي “ذَخيرةً حَيّة” للإعلام اللُّبناني النَّشِط ومَحطَّات التَّلفزة المُتعدِّدةِ الألوان والوَلاءات التي تُعتَبر جُزءًا حَيوِيًّا رئيسيًّا في الشَّخصيّةِ اللُّبنانيّة.
السيّد سعد الحريري الذي تَحوَّل إلى بَطلٍ قَوميٍّ لُبنانيٍّ بسبب “حادِثَة” احتجازِه في الرِّياض وإجبارِه على تقديم استقالته، ربّما دَخل التَّاريخ اللُّبناني بأنّه صاحِب الرَّقم القِياسي في التقاط صُور “السِّلفي” مع مُعجَبيه وأنصارِه، حتّى أنّه وَعَدَ 6000 ناخِبَة حسناء بالتقاط صُورًا مع كُل واحِدة مِنهن مُنفَرِدة إذا فاز في هذهِ الانتخابات بنِسبَةٍ كبيرةٍ من المَقاعِد، مِثلما قالت مَجلَّة “الإيكونوميست” البِريطانيّة، ولكن الأمر المُؤَكَّد أنّه سَيُواجِه صُعوبَةً في الحِفاظ على وِحدَة تَيَّارِه وصَلابة تحالفاتِه، وستكون مُهِمَّة تَشكيل الحُكومة الجديدة أصعَب بكَثير من نظيرَتها السَّابِقة، بعد “الإهانات” التي وجَّههَا، وإعلامه، إلى “حزب الله” والسيِّد حسن نصر الله أمينه العام، وصانِع المُلوك في لُبنان.
السيِّد الحريري عادَ إلى كُرسي رِئاسَة الوزارة نتيجة صِيغة تَوافُقيّة مع “حزب الله” و”التَّيّار الوَطنيّ الحُر” الذي يتزَعَّمُه الرئيس ميشال عون، وهي صِيغة “تضعضعت” في الأَشهُر الأخيرة، بسبب تَعرُّضِها للكَثير من الضُّغوط الخارِجيّة، وإذا لم يُسارِع إلى تَرميمِها فإنّ تَشكيل الوزارة الجَديدة قد يتأخَّر.. وهذا ليس جَديدًا على لُبنان الذي عاشَ لسَنواتٍ بِدونُ حُكومةٍ رسميّةٍ، وبُدون رئيس جمهوريّة.
يَظَل لُبنان حالةً استثنائيّةً في المِنطِقَةِ العَربيّة، وقادِرٌ دائِمًا على مُفاجَئِتنا بالحَد الأدنى من التَّعايُش، والأقصى من الدِّيمقراطيّة، ولهذا يَستَحِق وشَعبِه كُل التَّقدير والاحترام رُغم كُل التَّحَفُّظات.
“رأي اليوم”