الشيخ ولد المامي
القصة: سمع الخليفة عبد الملك بن مروان بقصة كثير وعزة واشتاق لرأيتها وفي احدى سنوات حكمه وبعد موت كثير وفد إليه وفد من عشيرة عزة وكان الأخيرة ضمن الوفد وحينما رآها عن قرب لم يجدها جميلة بالقدر الكافي لإثارة تلك الهالة حولها فسألها متهكما ماذا رأى فيك كثير حتى يحبك فأجابته، انه ينظر الي بعينين ليستا في رأسك.
المقال: كثيرا ما انتابني تساءل يلح علي من داخلي الى متى تظل ملحد الانتماء السياسي يا "مجدف"، الى متى تظل بعيدا بعيدا عن كل فرقاء وطنك دون ان تتشارك معهم مشاكلهم ودون ان ينالك من ودهم أو لعناتهم جانب، الى متى تتمسك بعقلية الـ لا منتمي العقيمة، الى متى يظل مداد يراعك حبيس دواته دون ان تريق منه ما يعبر عن كينونتك كرقم في جدول شركاء المصير.
وبين أمواج التساؤلات المتلاطمة يتراءى لي وميض إجابة في الأفق البعيد ليقول لي انها ميزتي الوحيدة التي ظِلتُ محافظا عليها من أيام الطفولة، والذكرى اليتيمة التي بقيت لي من أيام مهدي، فأتمسك بها أكثر وأكثر.
ظِلتُ طيلة مقامي على البسيطة صديقا للجميع وليست خليلا لأحد، اقتنع بما هو منطقي ولو نفاه الجميع وارفض غير المنطقي ولو تواتر عليه الجميع، اشك في وجودي حتى يثبت العكس، وامسك افكاري حتى تتلون الصوة، لا احكم ظنيا دون ان أعلنها، ولا اتمسك بالخطأ مكابرة.
ومع التقدم في السن والابتعاد عن أيام الطفولة ومؤثراتها، وتحت ضغوط الأصدقاء ركنت -مناورة منى- للتنازل عن جزئية صغيرة هي تلك المتعلقة بالكتابة، لكنني حينما امارس فعل الكتابة فإنني لا اعبر سوى عن رأيي وما اراه شخصيا دون ان الزم به أحد، ولأجل انعدام خلفيتي السياسية فإن رأيي يظل أكثر حيادا في نظري من أي رأي ءاخر لا يحمل صاحبه نفس الميزة.
مرت بذهني تلك الجزئيات وانا اتتبع ما بين سطور مقال معنون بـ (إفطار في القصر وتجديف بالنعم) كتبه صديقي الأستاذ محمد فاضل ولد الهادي المناضل في الحزب الحاكم للرد على احدى "شخبطاتي" المعنونة بـ (تجديف في معجم الحوار) حاولت من خلال تلك "الشخبطة" ان ابين رأيي مستندا الى ما أراه منطقيا دون ان اضمنه ما يضفي عليه طابع القداسة أو عدم إتيان الباطل من بين يديه أو من خلفه، وبالتالي يبقى هو الصواب المحتمل للخطأ في نظري عكس ما يراه غيري.
بدأ صديقي الـ"فاضل" مقاله الجميل بما يوحي بأنه هجوم مقرر سلفا على شخصية الأستاذ جميل منصور على طريقة "أبناء البطة السوداء"، وهو امر طبيعي ان تنعكس عقدة النقص التي يشعر بها مناضلو "حزب الشخص" على أي حزب ذي بعد برامجي أو أيديولوجي فحزب الشخص ينهار غالبا بزوال حكمه حال الحزب الجمهوري عندنا بينما تبقى أحزاب الأيديولوجية والبرامج قائمة مهما ضربتها العواتي ومهما مر بها من مدلج ومؤوب أوقال بظلها من مطي وراكب.
وبالرغم من انه ليس لجميل علي جميل حتى ادافع عنه، وليس هو أيضا في حاجة لـ"شخبطاتي" الهذيانية، فهو يتربع على قمة ما يمكن ان يوصف بانه دولة داخل الدولة، شئنا ذلك أم ابينا، وفضلا عن الكاريزما الشخصية له، فله اعلامه واقلامه ومنابره ومؤسساته الدعائية، والتي ان امسكت عن منتقد لرموزها فإن امساكها يعتبر ردا في حد ذاته، لكن على طريقة "وفيك اذا جنى الجاني اناة" على رأي أبي الطيب.
إلا انني وما دمت قد نلت شرف رفقته في رحلة المغضوب عليهم وبما ان جسمي لم يزل سليما لحد الساعة من فيروس متلازمتي "الكنتي إخوان" سأضيف في المجال ان ساكنة الرمادي لم تكرم وافدها حسب الظاهر بل افطرته على "بصلة" بعد صيام نيف من السنين، بدليل افشال اغلبيتها الداعمة لحوار "المباضعة" ذائع الصيت.
لكنني اتفهم انتقائية صديقي في اختياره لقيادة تواصل كي يركز عليها هجومه، فصراع عراب جناحه في الحزب مع جميل منصور ليس وليد اللحظة، حيث ان الثنائي كان ضمن رفاق الأمس غرماء الحاضر، ومن طبيعة رفاق الأيديولوجية ان يكون المهاجر من "جماعتهم" قد دخل في خانة الانبطاح حسب نظر البقية، وطبعا لن يترددوا في وصمه بالبراغماتية إذا كانت هجرته نحو قبلة ذات امتيازات مادية مضمونة، وهو رأي له ما يبرره حسب رأيي الخاص، وبالتالي فإن من طبيعة أي برغامتي أن يلعن ماضيه حتى يثبت للآخرين ولاءه لحاضره وقطيعته مع الماضي.
ثم ان مسألة التناوب "الديمقراطي" على الرئاسة التي ابتدعها حزب تواصل في مؤتمره الماضي ستجعل أي إصلاحات يروج لها الاتحاد تبقى دون المطلوب مالم يكرس مبدأ التناوب، وهذا ما يبدو أن زعامة الحزب ليست في اتم استعدادها لاتخاذه، وحتى لو اتخذته فستظل ذيلا وليست هامة، وبالتالي تبقى اصلاحاتها باهتة بالمقارنة مع تواصل مما يضعه كغصة في حلقها.
ومن جهة أخرى فان حزب تواصل قد حقق رقما مخيفا لأي منافس خلال حملة انتسابه الماضية، وبصفة شفافة "اجرائيا" وبعيدا عن الضغوط التي يمارسها غيرهم، والكل يعلم ان جميع منتسبيه يؤمنون به إيمانا تاما، بل إنهم يدعون بالهداية لمن يخالفهم الرأي السياسي، وهم على أتم استعداد لبذل الغالي والنفيس من اجله دون ان ينتظروا منه أي مقابل.
اما غيرهم فإن أي انتساب له مبني على النظرية النفعية، ولابد ان تستنفذ له جميع الضغوط والأموال وتستنفر له الزعامات القبلية والجهوية، ومع ذلك يبقى جل منتسبيه غير مؤمنين به بل ان أكثرهم لا يفرق بين الحزب والسورة.
ان تبرئتي للمنتدى الوطني من افشال الحوار من خلال تلك "الشخبطة" قد شهد صديقي عليها -دون ان يحس- إذ لو لم تكن أحزاب المنتدى تخاف سيف الحل المترتب على مقاطعة استحقاقين، لما شاركت في الحوار أصلا، ولذلك فإنها لن تتسبب في افشاله حيث ان فشله يشكل خطرا على كينونتها الوجودية، ومشاركتها دون قيد أو شرط بعد فشل "المباضعة" مضحية بما يحفظ ماء وجهها امام الممانعين، أكبر دليل على ذلك، فلو كانت هناك بدائل متاحة لاستعملها المنتدى حتى يحفظ ماء وجهه.
امّا ما يخص قضية انقسام الحزب الحاكم الى جناحين متصارعين فهي مسألة تقليدية في أحزاب الدولة التي تتقاسم الكعكة وتتنافس في انصبائها، وليس حزب الاتحاد فيها بدعا من اقرانه، ومسألة انكارها هي نوع من سياسة النعامة، والرد على انكارها تضييع للوقت، لكنه أوضح لي معلومة شخصية، هي ان صديقي لا يحترم عقلي، ولا مهنتي كمحرر صحفي يمر بجميع المستجدات بحكم عمله، وما دام الأمر كذلك فأنا سأكافئه بمعلومة هي أن "المراقبين" الذين تحدثت عنهم وعزوت لهم المعطيات إن لم يكن هو من ضمنهم في الواقع فإن جناحه في الحزب قد منعه.
وفيما يتعلق بتجديفي انا في الحوار فان تمييع الحوار من قبل الأغلبية جعله بحيرة لا يمكن ان تشق طرقها الا بالمجداف، وعموما فأن مجافاة التحليل للمنطق هي مسألة نسبية تكون ابعادها مختلفة حسب الزوايا التي يجلس فيها القراء، لكن ما أثار استغرابي ووضعته في صف المكابرة أو حتى التحامل هو ان "الشخبطة" لم تعتمد على استطراد الحدث كسرد تاريخاني ثم تحلل ابعاده فقط، بل تعادت ذلك الى استنباط حجج يمكن ان تشكل أدلة مادية امام أي ذي المام بالقانون وصديقي الـ"فاضل" ليس غريبا على نفس الاختصاص.
للعبرة: من السهل ان ترفض وضع نفسك كرقم في جدول، ومن السهل ان تضعها كرقم فيه، لكن لو حصل ذلك فمن الصعب ان تقنعهم بأنك رقم حيادي لا فردي ولا مزدوج.